أفكار أخيرة | هل يحظى المحتضر ببصيرة تمكنه من إدراك ما هو قيّم في الحياة؟ هناك أسباب وجيهة للشك

أفكار أخيرة | هل يحظى المحتضر ببصيرة تمكنه من إدراك ما هو قيّم في الحياة؟ هناك أسباب وجيهة للشك

27 يوليو , 2021

ترجم بواسطة:

ريناد مبارك

دقق بواسطة:

زينب محمد

بقلم: نيل ليفاي، أستاذ الفلسفة في جامعة ماكواري في سيدني، وزميل باحث أول في مركز أوهيرو للأخلاقيات العملية في جامعة أوكسفورد

ما السبيل إلى اجتلاء ما هو نفيس وقيّم في الحياة؟ قد تكمن إحدى السبل في تلمس الإجابة عند من هم على فراش الموت؛ حيث يتبنون منظورًا يخولهم لتمييز التافه من المهم، وربما ساقهم احتمال الموت الوشيك إلى الترفع عن الخلافات الصغيرة أو عن السعي خلف المال والمكانة، كما يهبهم رؤية خالصة لما يجعل الحياة جديرة بالاعتناء.

تبيّن أن العائلة والعلاقات الاجتماعية والأصالة هى الأمور الخليقة باهتمامنا، أو على الأقل هذا ما يقوله من هم على فراش الموت.. هناك القليل جدًا من الأبحاث المنهجية حول هذا السؤال، كما توجد بعض الأبحاث غير المنهجية في الجانب الآخر.

ما أن تكتب في محرك البحث “أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت” ستجد موقع ويب أو مقالًا صحفيًا يروي عمل “بروني وير” الممرضة الأسترالية التي اتخذت من مدونتها مساحةً لتدوين أحاديث من جانب السرير، والتي جُمعت فيما بعد في كتابٍ صار من أكثر الكتب مبيعًا. حسب ما نشرته وير، أعرب من هم على فراش الموت عن خمسة أمورٍ أشعرتهم بالأسف:

١. أتمنى لو أنني تحليتُ بالشجاعة لعيش الحياة كما يرضيني، وليس كما توقعه الآخرين مني.

٢. أتمنى لو لم أنهك ذاتي كدًا.

٣. أتمنى لو تشجعت للإفصاح عن مشاعري.

٤. أتمنى لو أبقيت على الأواصر التي ربطتني بأصدقائي.

٥. أتمنى لو سمحت لنفسي أن تكون أكثر سعادة.

بشكل عام يبدو أن الناس يرغبون في حياة ذات مغزى. تمنوا لو كانوا أكثر واقعية في أنشطتهم (١ ؛ ٣)، ولو أنهم منحوا الأولوية لأصدقائهم وأنفسهم بدلاً من العمل (٢ ؛٤ ؛ ٥). تمنوا باختصار لو تمهلوا واستروحوا عبق الزهر.

إنني -كمثل أي شخص آخر تقريبًا- أجد أنه من المنطقي أن تكون هذه الأمور ذات اعتبارٍ وقيمة كبيرة، وأنها مقومات (على الرغم من أنها ليست المقومات الوحيدة) لحياة ذات معنى. إلا أنني لست مقتنعًا بأن الندم المفصح عنه قبيل الموت يقدم لنا أسبابًا للاعتقاد بأهميتها.

إنني متشكك أولاً في المرويات نفسها. هناك ضغوط ثقافية مختلفة قد تدفع الناس إلى الإفصاح عن مثل هذا الندم، سواء شعروا به أم لا، وقد تدفعنا الضغوط ذاتها إلى نسبها إلى المحتضر، سواء أخبر عنها أم لا. ثانيًا -والأهم من ذلك- أنني أشك في أن منظور الموت يمنحهم رؤية أكثر جلاءً لما هو قيّم حقًا. وهناك أسباب للاعتقاد بأن الرؤية من فراش الموت أسوأ -وليس أفضل- من الرؤية من معترك الحياة. ربما خلّف فيهم إنزوائهم عن المشاريع القائمة فقرًا بالإحساس بقيمتها.

ثم إنني لست أول من تساءل عما لو كان الندم على فراش الموت يتمتع بامتياز معرفي أم لا. يقدم الفيلسوف الأمريكي إريك شويتزغيبل سببين لضرورة توخي الحذر في إعطائه وزنًا كبيرًا. في البدء، قد يكون المحتضرون عرضة لانحياز ناجم عن الإدراك المتأخر، حيث يميلون إلى الافتراض بأن منظورهم المعرفي الحالي إلى الماضي يتطابق مع المنظور الذي كان ينبغي عليهم تبنيه في ذلك الوقت. خذ النصيحة التي تفيد بوجوب تقديم الوفاء على المال؛ ستجد هذه النصيحة مقنعة إن كنت تنظر لها من منظور الذات الحالية المرتاحة ماليًا أكثر مما لو كان منظورك منظور ذاتٍ قلقة تكافح من أجل تغطية نفقاتها. حتى وإن كان الشخص الذي قدم النصيحة فقيرًا في يوم من الأيام، فإن جعل الماضي رومانسيًا من السهولة بمكان، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن ذكريات الحياة اليومية تميل إلى أن تُختزل في لحظات الذروة. فلعلي تذكرت أيام الفقر النسبي الذي قضيته على أنها أفضل مما كانت عليه بالفعل، لأنني أتذكر الرقص على الراديو في المطبخ ولم أجد صعوبة في دفع الفواتير. ذكرياتي المتحيزة يمكن أن تقودني بسهولة إلى التقليل من أهمية مقدار المال الذي يمثل أهمية حقيقية لحياة كريمة.

ينشأ السبب الثاني لتحذير شفيتزغيبل من الأسف المعرب عنه على فراش الموت من حقيقة أن المحتضر يفلت من عواقب مشورته؛ بحيث ينجو من اتهامه بالنفاق فيما لو فشل في الالتزام بما أعرب عنه؛ ذلك لأنك لا تُتوقع منه المحاولة؛ فلهذا السبب يقترح شفيتزغيبل أنه من الأفضل لنا إيثار معرفة الأربعينيون: أولئك الذين لديهم خبرة كافية تمتعهم بمنظور واسع للحياة، وفي الوقت ذاته لا تزال مصلحتهم في الحياة قائمة. على الرغم من أهمية هذه الشكوك إلا أنها لا تزال غير كافية لنفي الامتياز المعرفي للرؤية من فراش الموت. لسبب واحد، وهو أن حالة التحيز لما يعرف بالإدراك المتأخر موضع نزاع: كما جادل الفيلسوف الأسترالي براين هيدن: “إن الإدراك المتأخر غالبًا ما يشكّل عندنا فهم أفضل لما كان عليه الشاهد في ذلك الوقت”. يبدو أن الاعتراض بأن الموتى متحررون على نحو مشكك من ضرورة الالتزام بنصائحهم قد عُمّم على نطاق واسع للغاية: فنحن في كثير من الأحيان نطلب النصيحة من أفراد نعرف أنهم لن يتبعوها؛ ذلك لأنهم لن يواجهوا الظرف ذاته. بعض الظروف التي نختبرها (كأن نذهب إلى الكهنة العازبين من أجل المشورة بشأن مشاكل الزواج) يمكن أن تعطينا سببًا لتقليل مشورة فراش الموت إلى حد ما، بيد أنها تتناسب مع الاعتقاد بأن لها -بالرغم من ذلك- وزنًا معرفيًا فارقًا.

يمكننا تعزيز شكوك شفيتزغيبل بوجسٍ ثالث؛ إن ندم الموت ما هو إلا بديهيات وأشتات من الحكمة الشعبية المسلم بها، وهذه الحقيقة بالذات مدعاة للتساؤل عن صدقهم وعن تمثيلهم كذلك. تقدم لنا وير في “أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت” مجرد نوادر قصصية وليست أدلة جُمعت بعناية، فلسنا نعرف عن مدى اتساع نطاق المرضى الذين رأتهم خلال سنواتها العديدة في مجال الرعاية الصحية؛ ربما لم يكن قد بلغ مبلغًا من التوسع لأنها عملت لصالح وكالة تقدم المساعدة لمنازل تستطيع تحمل تكلفة مثل هذه الخدمات. ولسنا نعرف كذلك إلى أي مدى قد أبلغت -بشكل منهجي- عن الأسف الذي سمعته؛ فلربما صدمتها بعض الأشياء أكثر من غيرها فكان من المرجح أن تتذكرها. وبعيدًا عن هذه الاعتبارات؛ هناك أسباب تدعو للقلق من أن ما قيل لها بالفعل، وما تتذكر أنه قيل إنما نجم عن ضغوطًا ثقافيةً من مختلف الأنواع.

تبدو أهم الأمور التي يندم عليها الناس عند وفاتهم معتادة على نحوٍ يثير الريبة. تبيّن أن المحتضر يثمِّن -تمامًا- الأشياء التي تؤكد ثقافته بأنها موضع التقدير والاحتفاء، مثل الموضوعات التي تهتم  بها الإعلانات والمجلات. وجود مقولة أنه “لم يقل أحد وهو على فراش الموت: أتمنى لو قضيت وقتًا أطول في المكتب” إلى جانب أربعون ألف نقرة على جوجل تشابهها يشير إلى مدى عمق هذه المشاعر التي يتردد صداها معنا. إن قيمة الصداقة والأسرة والمشاعر هى بالتأكيد جزء من سبب تقديرنا لها؛ بيد أن ابتذال النصيحة يقودنا إلى الشك بها. يشير انتشار النصيحة إلى أن هناك سيناريو ثقافي معمول به: مجموعة من التوقعات تشكل ما يُقال وما يُسمع. ربما قادتنا توقعاتنا إلى تحوير ما يقول المحتضر ليتلاءم مع ذلك السيناريو؛ ربما قامت وير (على سبيل المثال) بتحوير عبارات إشكالية إلى العبارات التي أبلغت عنها، أو ربما استحضرت وأبلغت فقط عما يلاءم السيناريو وتجاهلت ما ليس يلائمه. من ناحية أخرى، ربما حكم المحيط الثقافي ما قيل بالفعل، وربما كانت تقاريرها مخولة نظرًا لدقة وصدق تمثيلها، بيد أن المحتضرون أعربوا عنها لأنه ما يفترض أن يقوله المرء في مثل هذه المواقف. يدرك المحتضر أنه لو أعرب عن ندمه على عدم كسب المزيد من المال أو عدم قضاء المزيد من الوقت في المكتب، فلسوف يُقابل بشيء من التسطيح وضحالة الموقف.

فيما لو كان ما تم الإبلاغ عنه أو تذكره محكومًا بأُطره الثقافية، فقد يكون من المحمود أن تنتشر شذرات الحكمة هذه على نطاق واسع وتتكرر لتُنتهج نظرًا لحتمية الموت. وإن كان الأمر صحيحًا، فإن فكرة أننا يجب أن نعطي هذا الندم وزناً خاصاً لأنهُ قد أُدلى به من قبل شخصٍ يحتضر يعيد الأمور إلى الوراء: ننسب هذه الأمور إلى المحتضر لأننا نمنحها قيمةً خاصة.

ماذا لو أشارت الأبحاث إلى أن المحتضر يعرب عن مثل هذا الندم بالفعل، ووجدنا أنهم يعبرون عما يعنيهم في الوقت الذي أعربوا فيه عن ذلك؟ هل يجب أن نعطيهم وزناً خاصاً في ظل هذه الظروف؟

إن الفكرة القائلة بأن المشهد من على حافة الموت يتمتع بامتياز معرفي هى فكرة ذات أصول فلسفية. يرتبط الوجوديون -على وجه الخصوص- بالفكرة القائلة بأن من شأن وضع حقيقة موتنا الحتمي في الاعتبار أن يساعد في تحقيق الأصالة. في كتابه “الوجود والزمان” (1927) يجادل مارتن هايدجر بأن الموت يميزنا بشكل فردي؛ لأننا عند الموت نتوقف عن علاقاتنا مع الآخرين، والذي -بالنسبة له- يستتبع أن الوعي بموتي يمكّنني من إدراك حقيقة وجودي، بينما يسمح التهرب من التفكير في موتي (من خلال إدغامها في حتمية موت الجميع) بالهروب إلى الزيف. طور وجوديون آخرون (مثل كارل جاسبرز) هذا المفهوم بطرق مختلفة بعض الشيء.

تتوقف الأصالة بصورة أو بأخرى على صدقنا مع ذواتنا ومع ما يميز كل واحد منا. إنها المثل الأعلى للكثيرين. إن كان هايدجر محقًا، فإن من شأن إنعدام الفكر في الموت توجيهنا نحو جادة الأصالة. عندما أستغرق في مخاوفي اليومية قد لا أتمكن من برق ذاتي وما يعنيها؛ وربما مكنني إخماد الضجيج من إصغاء السمع لصوتي الداخلي على نحوٍ أفضل؛ أو ربما أعانني التفكير في الموت على الغرض ذاته. قد ينزل من هو على فراش الموت، من لم تعد التفصيلات تلهيه أو تربكه، منزلة أقرب لسماع هذا الصوت الأصيل.

بيد أن إغواء الأصالة لا يفيد بالضرورة بأن لدى المحتضر حصافة خاصة يدلي لنا بها. الأصالة هى سماع صوت المرء الداخلي؛ وربما كان المحتضر في موقف يهيئه لتمييز ما يعنيه. ومع ذلك؛ لا يوجد سبب للاعتقاد بأن حصافته تعيّن لي ما يعنيني بالفعل. على الرغم من ذلك، ربما اجترحت مناورة هايدجر لأجل قيم أخرى، غير الأصالة. ربما وُجدت عدة أمور ذات قيمة بالنسبة لنا جميعًا، وساعدنا المنظر من فراش الموت على فهمها لنفس السبب المفترض في أنها تمكننا من فهم ما يهم كل واحد منا: لأن أمورًا يوميةً لم تعد تشتتنا.

ارتأيت قلب هذا التصور؛ ربما كانت الصورة من فراش الموت مجدبة مفقرة؛ ذلك أنها تقع خارج إطار الحياة اليومية.

يدعي هايدجر أن من شأن التفكر في موتنا بصفتنا أفرادًا انتشالنا من الاستغراق في الحياة اليومية. كما يقترح التباين الشاسع بين الصورة من خارج إطار الحياة اليومية والصورة القابعة داخل الإطار ذاته. أمرٌ معقول. بيد أنه لا يفيد بأن الرؤية من خارج إطار الحياة اليومية أكثر ثباتًا وموثوقية؛ حيث أن هناك أسباب للاعتقاد بأنها أقل موثوقية.

يشير الفيلسوف الأمريكي توماس ناجل في مقال مؤثرعن العبثية إلى أنه عندما نبدي قدراتنا الفارقة في الكف عن الانهماك في حيواتنا واستعراضها  بدهشة كدهشة مشاهدة  النملة تكافح فوق كومة من الرمل فإن جميع مبررات نضالنا تتلاشى. يتسرب المعنى بعيدًا لأن اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة يستلزم التراجع عن أنواع المخاوف التي تشكل أسبابنا. لا تسعنا الإجابة ولا التبرير عندما نكون خارج إطار التجربة؛ فالمبررات تتلاشى جرّاء غياب الالتزام الذي يمنح حيواتنا معناها. قد تكون الصورة من فراش الموت أقرب إلى النظر من خارج التجربة ومعتركاتها؛ حينها لا يمكننا استيعابها، ليس لأنها ليست حقيقية، ولكن لأن التجارب تُدرك من الداخل فقط.

معظم الخطط والمشاريع لا تكون ذات قيمة إلا عند من هو ضامن عيشه لبعض الوقت في المستقبل. غالبًا ما يكون توفير المال أمرًا منطقيًا فقط عندما تتوقع وقتًا مستقبليًا قد تحتاج فيه إلى المال. قد يكون تعلم اللغة الفرنسية منطقيًا فقط عند وجود احتمالية لزيارة باريس. قد لا يكون لزراعة الورود معناها إلا لو كنت موجودًا لرؤيتها تتفتح وتزهر (بالطبع، يزرع الناس أشياء لأطفالهم أو حتى للغرباء، بيد أنه حتى هذا النوع من الزراعة غالبًا ما يعتمد على وجود نوع من المستقبل المؤمل، لأن الشتلة قد تحتاج إلى رعاية قبل أن تتمكن من البقاء على قيد الحياة بمفردها). حتى بدء كتاب، على سبيل المثال، هو مشروع قد يتطلب الثقة في مستقبل شخصي مؤمل حتى يكون منطقيًا. لن تشرع في قراءة رواية “الحرب والسلام” (١٨٦٧) التي كتبها ليو تولستوي المؤلفة من ١٣٩٢ صفحة إذا كنت تعلم أن لديك ٢٤ ساعة فقط للعيش. بل لن تشرع حتى بمشاهدة صراع العروش.

بمجرد أن تعرف أن وفاتك وشيكة تفقد الخطط والمشاريع سيطرتها عليك باعتبارها أنشطة ذات قيمة بالنسبة لك. على فراش الموت ليس هناك سوى مجموعة من الالتزامات هى الأضيق والأكثر إلحاحًا فقط تكون لها أهميتها. وما أن ندرك افتقارنا إلى مستقبل شخصي، نجد أنفسنا خارج نظام التسويغ الذي يضمن المشاريع طويلة المدى. ما زلنا نفهمهم، لكننا نراهم الآن من الخارج. عندما نجد أنفسنا خارج أطر التبرير التي تؤمن هذه المشاريع، فإن ارتباط الآخرين العاطفي بها يبدو عبثيًا، تمامًا كما يبدو كفاح النملة في مثال ناجل. ألقت الرؤية من فراش الموت بمصادر مهمة في المعنى.

إذا كان الأمر صحيحًا فإن المشهد من فراش الموت مميز معرفيًا. إنه منظور الشخص الذي يتم تضمينه في مجموعة أبسط من الالتزامات: بالنسبة له، فإن الملذات الأبسط -تلك التي يمكن تحقيقها على الفور، أو التي تؤتي ثمارها بسرعة نسبيًا- لا تزال تحكم قبضتها، لكن الالتزامات الأوسع نطاقًا تعتبر عبثية. النظرة من فراش الموت تقترب قدر الإمكان من الناحية البشرية (بالنسبة لأولئك الذين لا يعانون من الاكتئاب الشديد) في التخلي عن الالتزامات في مشاريع تمتد طويلًا. وليس يتمتع فراش الموت بامتياز معرفي لأن المشاريع الممتدة  تبدو بلا معنى، بل لأن المنظور يفتقر إلى الأفق الزمني الذي يجعله منطقيًا. تفتقر هذه المشاريع إلى المعنى لأن معناها لا يمكن إدراكه إلا من الداخل. لا تزال مشاريع الحياة ذات مغزى، حتى لو عجز الذين أيسوا من وجود المستقبل عن التعاطف معها.

في كتابه الأخير عن أزمة منتصف العمر يجادل الفيلسوف الأمريكي كيران سيتيا بأن هذه الأزمات يمكن أن تنشأ لأننا عندما نكمل مشاريعنا فإنها تفقد معناها بالنسبة لنا. هذه المشاريع هى مشاريع موجهة: لها هدف، والتزامنا بهذا الهدف هو ما يجعلها ذات مغزى بالنسبة لنا. وبمجرد أن نحقق هذا الهدف فإنها تبدو سخيفة. ينصح سيتيا لتجنب أزمة منتصف العمر بإيجاد قيمة في الأنشطة التي ليس لها هدف يذهب إلى أبعد منها (مثل الذهاب في نزهة لأجل التنزه فقط، بدلاً من الذهاب إلى مكان آخر على سبيل المثال). ومهما كانت مزايا حله للمشكلة التي يرى أن منتصف العمر يثيرها، فإن تمييز سيتيا مجدٍ بشكل من الأشكال. عند منتصف العمر عندما يحقق الموفقون من الناس بعضًا من أهدافهم، فإن تلك المساعي الموجهة نحو هدف تبدو عبثية وعديمة الجدوى. بيد أننا لا نزال في معترك الحياة وعلينا أن نجد طريقة لإعادة الالتزام بمشاريع حيواتنا القائمة (يوصي سيتيا بإيجاد قيمة في اللحظة الراهنة).

في كل مرحلة من مراحل الحياة نواجه مزيجًا مختلفًا من الأنشطة الموجهة وغير الموجهة نحو هدف خاص. هذه الأنشطة تضفي على حيواتنا الشعور بالقيمة. ربما يعكس المنظور من فراش الموت -بأصالة- من هم مجبرون على الانسحاب من الأنشطة القائمة في ضوء أفقهم الزمني القصير. بيد أن حكمتهم لا توافق بالضرورة من يحالفهم الحظ لمتابعة الانخراط في أنشطة موجهة جديرة بالاهتمام. من الخارج يبدو السعي وراء أهداف قصيرة المدى جدًا فقط ذو معنى. الرفقة والتأمل والجمال … تظل متاحة للمحتضر بل وتحظى بالقبضة الأوثق، بيد أن وجهة نظرهم جزئية. ربما تم التعلق ببعض الأمور على فراش الموت بقوة خاصة، لكن بعضها الآخر يهوى بعيدًا؛ ليس لأنها تفتقر إلى القيمة أو أنها باهتة أو لا طائل منها؛ بل لأن قيمتها لا يمكن إدراكها بالكامل إلا من الداخل.

المصدر: https://aeon.co

ترجمة: ريناد مبارك

تويتر: @Renadians

مراجعة وتدقيق: زينب محمد


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!