لابدّ أن شحّ المياه أول ما يتبادر إلى ذهنك حين يبلغ مسامعك مصطلح “مشاكل عالمية” أو “تحديّات بيئية”، حيث إن الموارد المائية هي أصل الأصول لمسببات الحياة واستمراريتها، لذلك، لن تكفّ البشرية أبدًا عن السعي المثمر اتجاه الحفاظ على أكبر ثروات هذه الأرض السخيّة، بدءً من ترشيد الاستهلاك، ووصولًا إلى تنقية المياه ومعالجتها. بيد أن عملية التنقية ما زالت تشكّل تحديًّا بيئيًا كبيرًا في حاجتها لإمدادات الطاقة الضخمة، ومن هنا اشتعل فتيل الفكرة!

تتزاحم المحاولات في مجال توليد الطاقة المتجددة، متنقلة بين أنحاء العالم أجمع، واليوم ستكون محطتنا في كوريا وتحديدًا من المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا في سيول وجامعة ميونغجي في يونغين، لابتكار أول جهاز لتنقية المياه وتوليد الكهرباء في آن واحد!

بداية التحدي

لأن موضوع المياه وتوليد الطاقة أمر في غاية الأهمية، أُوجدت العديد من التقنيات لتوليد الطاقة من المصادر المتجددة، بالإضافة إلى أغشية التنقية التي ساعدت على جعل الموارد المائية المختلفة صالحة للشرب، مثل الأمطار ومياه البحار والمياه الجوفية ومياه الأنهار والصرف الصحي، لكن الطاقة الهائلة التي تتطلبها هذه التقنيات شكّلت تحديًا كبيرًا لا يمكن التغاضي عنه، وفي ضوء ذلك يقول العالم جي سو جانغ من المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا، والذي تشمل أبحاثه في سيول علوم المواد والهندسة الكيميائية والبيئية: “تقنيات التنقية الحالية سواء عن طريق التكنولوجيا الحرارية أو الترشيح تتطلب طاقة هائلة”.

وقد كان العالم جي سو جانغ مهتمًا بالقضايا البيئية أثناء دراسته في كوريا، ثم أثناء زمالة ما بعد الدكتوراه في الولايات المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بالمياه، المورد الذي لا يقدر بثمن! وقال: “تم بالفعل نشر أغشية التنقية ومولدات الطاقة من مصادر المياه المختلفة، مع ذلك، لا يوجد مفهوم لتوفير المياه النقية والكهرباء في نفس الوقت من خلال التحكم في تدفق المياه، ومن هنا جاء التحدي الذي وضع العلماء الكوريون أنفسهم فيه”، وهنا تمامًا حيث ولدت الفكرة.

تحت الضوء

الجهاز عبارة عن غشاء متعدد الوظائف يمكنه توليد الكهرباء بشكل مستمر في أثناء عملية تنقية المياه وتحويلها إلى مياه صالحة للشرب، وظهر الابتكار للضوء عندما تصدّر الغلاف الأمامي لمجلة (Advanced Materials) وهي مجلة عالمية معنية بعلم المواد، عندما استطاع باحثون كوريون ابتكار جهاز يتيح استخدامًا فعالًا لموارد المياه الملوثة من خلال توليد الطاقة المتجددة على المدى البعيد، وكان هذا الابتكار حصيلة مجهودات كل من فريق الدكتور جي سو جانغ من مركز أبحاث المواد الإلكترونية، وفريق البروفيسور تاي جوانغ يون من قسم علوم وهندسة المواد بجامعة ميونغ جي، الذين طورّوا بشكل مشترك غشاءً متعدد الوظائف لتنقية المياه وتوليد الطاقة الكهربائية في نفس الوقت.

كان لهذا الابتكار صدىً كبيرًا بعد نشره، حيث تم الحديث عن تفاصيله في الموقع الرسمي للمعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا (KIST) نهاية شهر شباط من العام الحالي، ونُشر أيضًا تقرير في مجلة لوموند الفرنسية نهاية شهر آذار يتحدث عن وضع أول نموذج أولي لجهاز متعدد الوظائف قادر على توفير المياه النقية والكهرباء بنجاح.

المكون السحري: غشاء متعدد الوظائف (EPM)

يتكون الجهاز من غشاء مسامي يقوم بتصفية الماء في القاع، وبوليمر موصل يولد الكهرباء في الأعلى، وصُمم الغشاء لتنقية المياه العادمة من خلال التحكم في اتجاه تدفق المياه؛ حيث إنه أثناء تنقية المياه المتدفقة عموديًا على الغشاء يتم توليد تيار مباشر عن طريق حركة الأيونات في الاتجاه الأفقي.

أطلق على هذا الغشاء اسم (EPM) وهو اختصار لعبارة (Electricity generation and Purification Membrane)، والتي تعني: غشاء توليد الكهرباء وتنقية المياه، ويتميز هذا الغشاء بدقة تصفية عالية تصل إلى 95٪ للملوثات ذات الأحجام الأقل من 10 نانومترات، وبالتالي، يمكنه إزالة اللدائن الدقيقة وجزيئات المعادن الثقيلة الموجودة في مياه الصرف الصحي، بالإضافة لتوليد الكهرباء لأكثر من 3 ساعات باستخدام 10 ميكرولترات فقط من الماء.

الصناعة والتسويق

نظرًا لانخفاض تكاليف الإنتاج ووقت المعالجة، يتمتع هذا الجهاز بإمكانية تسويق عالية وسهلة، حيث يمكن تصنيع الغشاء باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد بصورة بسيطة وأحجام مختلفة. يستمر فريق البحث حاليًا بمتابعة توليد الكهرباء مع تحسين جودة المياه المعالجة باختلاف مصادرها، متطلعين لجعلها من مستوى مياه الشرب وذلك من خلال تطوير الغشاء لجعله مصنعًا حقيقيًا مستقلًا بذاته!

 أوضح الدكتور جي سو جانغ من المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا (KIST) عن آماله المستقبلية لهذا البحث قائلاً: “باعتبارها تقنية جديدة يمكنها حل مشكلة نقص المياه وإنتاج طاقة صديقة للبيئة في وقت واحد، فإن لها أيضًا تطبيقات محتملة كبيرة في نظام إدارة جودة المياه ونظام الطاقة في حالات الطوارئ”.

قوة الفكرة

دائمًا ما يقال إن أعظم المشاريع كانت في الأصل حلًا لمشكلة! وبينما يواجه العالم مشكلة ندرة المياه، وتحدي كميات الطاقة المستهلكة في عمليات التنقية، انطلق مضمار التحدّي من كوريا معلنًا ابتكارًا فريدًا يمكن وصفه على المدى البعيد بصديق البيئة، وهذا ما هو إلا دليل على قوة العلم في مواجهة التحديات والصعوبات الخانقة للكوكب والبشرية التي يحتويها. لذلك، ما زال المضمار يتسع لكل أولئك الذين يسعون لإيجاد حياة أفضل، والحفاظ على ما هو موجود بالأصل للأجيال القادمة.

المصدر: Korea Institute of Science and Technology

بقلم: زينب عبد الله

مراجعة وتدقيق: زينب محمد