الايشريشيا: الحقيقة خلف أكبر تسمم للطعام في القرن الحالي

الايشريشيا: الحقيقة خلف أكبر تسمم للطعام في القرن الحالي

26 أكتوبر , 2022

ترجم بواسطة:

أحمد عاطف سالمان

دقق بواسطة:

زينب محمد

دائمًا ما تأسرنا الأحداث الكبيرة، بيد أن حياتنا هي تلك اللحظات الصغيرة المنفصلة التي قد يتخللها بعض المحطات الضخمة وربما تمر بأكملها ونحن نبحث عن الحدث الأكبر. في هذه المقالة نرى كيف أن التفاصيل الدقيقة ما تكون هي عادةً المفتاح، لنبدأ حديثنا قبل بداية الصيف وقبل بداية ما سوف يكون ثاني أكبر تفشي للايشريشيا المُنزفة للأمعاء في التاريخ.

1- هدوء ما قبل العاصفة

مايو، بداية الهدنة بين الشمس والأراضي الألمانية، درجات الحرارة مقبولة ويستمتع المواطنون أخيرًا بالسماء الصافية بعد شتاء طويل، يبدو كأنه يوم عادي في إحدى المستشفيات في هامبورغ، يدخل أحد المرضى غرفة الطوارئ بثيابٍ مٌلطخة بالدماء مع ارتفاع في درجة الحرارة وآلامًا في البطن، قد يبدو الأمر مخيفًا ولكنه ليس بغير معتاد عن المستشفى، لكن ما أثار قلق الأطباء هو التقارير المنتشرة منذ بداية الشهر عن أعراض مشابهة سببها عدوى بكتيرية لم توضح تفاصيلها بعد، حُجز المريض بالمشفى وأُرسلت عينات من برازه للمعمل وعندما ظهرت النتائج كانت العدوى موجودة.

2- الصديق المتقلب

الايشريشيا كولاي (E. Coli) أو الإشريكية القولونية هي بكتيريا تتواجد في الأمعاء الغليظة لجميع الثدييات ومنهم الإنسان. بداخلنا هي مفيدة حيث تقوم بتصنيع فيتامين ك والمحافظة على سلامة الأمعاء وفي بعض الأوقات المشاركة في الهضم، ولكن بالخارج تتواجد عدة أنواع قادرة على تصنيع سموم مختلفة تهاجم الأمعاء أو الجهاز البولي للإنسان مسببة عدوى تتراوح بين الإسهال البسيط حتى تقرحات الأمعاء.

عندما أكد المعمل أن العدوى سببها الايشريشيا أثار الأمر استغراب الأطباء قليلاً! فلم تكن الإفرازات مائية كعادتها بل كانت إسهال دامي وعند فحص وظائف الكلى لوحظ ارتفاع الكرياتنين وزلال البول وانخفاض في معدل الترشيح الكلوي وهي أعراض ما يسمى متلازمة انحلال الدم اليوريمية ولكن ليس هذا سبب استغرابهم، الغريب في الأمر أن هذه المتلازمة وهذه العدوى البكتيرية عادةً ما تصيب الأطفال وبعض العجائز ولكن أغلب المرضى في هذا التفشي كانوا من البالغين الذى ظهر لديهم أيضًا بعض الأعراض العصبية، بدا أنهم أمام متحور جديد..   

3-  O104:H4

في هذه اللحظة كان قد انتقل التحقيق من الأطباء والمعامل في المستشفيات إلى المتخصصين في معهد روبرت كوخ المعني بالأمراض المعدية والمجهولة، حيث يتم التفريق بين أنواع الايشريشيا المختلفة بواسطة اختبار الأجسام المضادة.

لدى الايشريشيا نوعان مميزان من البروتينات، النوع الأول يوجد في الغشاء البلازمي ويسمى بـ O والنوع الآخر يوجد في الذيل ويسمى بـ H ومن هنا أتى اسم المتحور.

كانت هناك أبحاث سابقة عن هذا المتحور النادر، ولكن لم يكن بمثل هذا الضرر ولم يسبق اقترانه بمتلازمة الانحلال اليوريمية من قبل، وجد العلماء أن هذه البكتيريا قد تطورت وازادات حدتها واستطاعت الحصول على الجين المكون لنوع من السموم يسمى سم الشيجا من النوع الثاني (stx2) وهو الذي يستهدف الأوعية الدموية الدقيقة في الكلية والأمعاء مسببًا الضرر الكلوي والإسهال الدامي وأيضًا متلازمة التحلل اليوريمي – كيف ولماذا تطورت وحصلت على هذا السم، هذا سؤال ليوم آخر.

4- خطوة إلى الوراء

بدأ المرض واستمر في الولايات الشمالية فقط في ألمانيا حيث إن غالبية الحالات المسجلة تقبع أو أمضت الفترة الأخيرة في ولاية منهم.

عندما أتى المريض إلى مشفى هامبورغ كنا تقريبًا في منتصف مايو، كانت هناك تقارير منذ بداية الشهر، إلا أن الأعداد لم تبدأ في الزيادة الملحوظة إلا في هذا الأسبوع حتى وصل المرض إلى ذروته في الثاني والعشرين من نفس الشهر، حيث سجل في هذا اليوم فقط ما يربو عن المئتين مريض ثم بدأت الموجة بالاندثار حتى منتصف يونيو وأُعلن انتهاء التفشي تمامًا في الرابع من يوليو بعد مرور 3 أسابيع بدون تسجيل أي حالة.

معرفة هذه المواعيد كانت خطوة في غاية الأهمية لتحديد مصدر العدوى، بل وتأكيد أنه متحور، حيث النسخة الأولى من البكتيريا التي سميت بـ O157:H7 كانت فترة حضانتها 3 أيام بينما المتحور الجديد – الأكثر خطورة – كانت تصل إلى ثماني أيام، ولكن التحسن كان يبدأ خلال أسبوعين في كليهما.

5- وقت التحقيق!

الآن صار المختصون يعرفون نوع البكتيريا، اسمها، وأيضًا الخريطة الزمنية للتفشي منذ البداية حتى النهاية وحتى التوزيع الجغرافي للمرض، ماذا تبقّى ليعرفوه؟ أجل، كيف وصلت البكتيريا وكيف بدأ التفشي..

لنراجع معلوماتنا، لقد قلنا أن البكتيريا في الطبيعة تعيش في أمعاء الثدييات، ومن هنا انطلقت النظريات الأولية بدئًا بالإنسان ولكن عدد المرضى الذي وصل تقريبًا إلى أربعة آلاف يجعل من تلك الفكرة بعيدة للغاية في مثل تلك الفترة الزمنية المحدودة خصوصًا أنها بكتيرية معوية، أي أن طريقة الإصابة غالبًا عن طريق التناول، الاختيار الآخر هو الحيوانات وقد استطاع معهد روبرت كوخ نفي وجود البكتيريا في اللحوم أو الألبان.

لم يتبقى إلا الخضروات، كان التخمين الأول للسلطات هو الخيار المستورد من أسبانيا ورغم إثبات عدم وجود البكتيريا فيه معمليًا، إلا أن مجرد التصريح بالشك أدى إلى خسائر اقتصادية مهولة تٌقدّر بحوالي 250 مليون يورو.

تابع معهد روبرت كوخ البحث في باقي الخضروات، مثل الطماطم والخس ولكن كل الاختبارات كانت سلبية.

6- تأثيرها على الذاكرة

كانت متلازمة الانحلال اليوريمي تبدأ عادةً في المرضى بعد أسبوعين من الإصابة وفي نفس التوقيت أظهر حوالي نصف المرضى أعراض جديدة; قلق، اضطرابات في الانتباه، مشاكل في الذاكرة وأُثبت تضرر المخ عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي.


الآن لم يعد فريق التحقيق قادر على الثقة في وصف وذكريات المرضى، وبفرض حدوث ذلك، فقد مرت بالفعل عدة أسابيع وليس بمقدور المرضى تذكر كل ما حدث بعد كل هذا الوقت. بعد ضحد جميع النظريات الأولية تأكد المختصين أن الدراسات الفردية للحالات لن تصل إلى الحل.

دراسات التعرض (Cohort) هي الدراسات التي تقارن بين مجموعتين من الأشخاص أحدهما تعرض إلى مُمرِض محتمل والمجموعة الأخرى لم تتعرض لمعرفة هل هو مُمرِض بالفعل أم أنه ليس لديه علاقة بالمرض، أجرى المختصون بمعهد روبرت كوخ ثلاثين دراسة من دراسات التعرض، ولكن فقط الفريق السادس من كانت أفكاره عبقرية!

 كيف تكوّن مجموعة لدراستها من بين أربعة آلاف مريض منتشرين بين خمس أو ست ولايات؟
ما الشئ الذي تستطيع الجزم أنه جمعهم بدون أن تترك الدراسة تحت وطأة ذكرياتهم المشوشة؟
أن يكون المرضى بالفعل مجموعة موحدة لديها جدول متشابه.


وهو ما تم تحقيقه في مجموعة من السياح الذين ذهبوا جميعًا إلى مطعم معين، ولكن لم يصاب الجميع بالعدوى.
باستخدام الصور والفواتير وقائمة طعام المطعم استطاعوا معرفة معظم الأطباق التي تناولها السياح عند زيارتهم للمطعم وبعد التحقيق مع الطباخ فُصلت جميع الأطباق إلى مكوناتها الأولية للوصول إلى مصدر عدوى.

7- التفاصيل الدقيقة تحل أزمة البيولوجيا الدقيقة  

وُجد بجانب الخيار والخس والطماطم، مكون صغير جدًا يستخدم لتزيين الأطباق ولضآلته لم يتذكره أي من المرضى في جميع الدراسات السابقة ولم يخطر على بال الباحثين تحليله، ألا وهو براعم الحِلبة.

وجد الباحثون أن معظم من تناول طعام يحتوي على البراعم أصيب بالأعراض المَعِدية بينما من لم يتناول أو تناول باقي المكونات لم يسجل إصابته أو شكواه، وبتتبع مصدر البراعم وُجد أنها جميعًا أتت من مورد واحد وما زاد من تأكيد أنها هي المصدر أن ثلث الموظفين العاملين لدي المورد كانوا من الحالات المسجلة وبالفعل تم تحليل عينات من البراعم واستطاعوا إيجاد المتحور بداخل بعض العينات.

أُتلفت الشحنة بالكامل البالغة 15 طن رغم عدم إثبات احتواء الكمية بالكامل على المتحور، إلا أنه من الصعب جدًا التمييز بين المصاب والسليم، وأخيرًا عندما سُئل المورد عن مصدر البراعم أجاب من مصر.  

عند تتبع الشحنة وجد أنها قد خرجت من مصر  في نهاية 2009  – حيث أغلب النظريات الأولية تشير إليها كمصدر للوباء – مرورًا بهولندا وإنجلترا وفرنسا حتى وصلت إلى ألمانيا في 2011 حيث أُنبتت ومن هنا بدأ الوباء، يمكن للايشريشيا النجاة لفترات معقولة في البذور الجافة، ولكن لا يوجد دراسات تثبت قدرة هذا المتحور على النجاة طوال هذه الفترة، مما يرجح أن العدوى ربما لم تبدأ في مصر، ولكن قد تكون بدأت في أي محطة من المحطات التالية ومما يرجح هذه الفكرة أن المتبقي من هذه الشحنة عندما أُنبتت في فرنسا بالشهر التالي لهذا التفشي ظهرت بعض الحالات المصابة بالمتحور، ولكن سريعًا ما تم السيطرة على التفشي.

المصادر:

  1. Buchholz, U., Bernard, H., Werber, D., Böhmer, M. M., Remschmidt, C., Wilking, H., Deleré, Y., an der Heiden, M., Adlhoch, C., Dreesman, J., Ehlers, J., Ethelberg, S., Faber, M., Frank, C., Fricke, G., Greiner, M., Höhle, M., Ivarsson, S., Jark, U., . . . Kühne, M. (2011, November 10). German Outbreak ofEscherichia coliO104:H4 Associated with Sprouts. New England Journal of Medicine, 365(19), 1763–1770. https://doi.org/10.1056/nejmoa1106482
  2. Institute of Medicine, Board on Global Health, Threats, F. O. M., Mack, A., Hutton, R., Olsen, L., Relman, D. A., & Choffnes, E. R. (2012, October 10). Improving Food Safety Through a One Health Approach: Workshop Summary (Illustrated). National Academies Press.
  3. Kampmeier, S., Berger, M., Mellmann, A., Karch, H., & Berger, P. (2018). The 2011 German Enterohemorrhagic Escherichia Coli O104:H4 Outbreak—The Danger Is Still Out There. Current Topics in Microbiology and Immunology, 117–148. https://doi.org/10.1007/82_2018_107
  4. Karch, H., Denamur, E., Dobrindt, U., Finlay, B. B., Hengge, R., Johannes, L., Ron, E. Z., Tønjum, T., Sansonetti, P. J., & Vicente, M. (2012, August 24). The enemy within us: lessons from the 2011 EuropeanEscherichia coliO104:H4 outbreak. EMBO Molecular Medicine, 4(9), 841–848. https://doi.org/10.1002/emmm.201201662
  5. World Health Organization. Regional Office for Europe. (2021, December 3). Public health review of the enterohaemorrhagic: Escherichia coli outbreak in Germany. Retrieved September 29, 2022, from https://apps.who.int/iris/handle/10665/349978

بقلم: أحمد عاطف

لينكد إن: ahmedatef22

مراجعة وتدقيق: زينب محمد


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!