دور السقالات العصبية غير المتوقع في الألم

دور السقالات العصبية غير المتوقع في الألم

30 أغسطس , 2022

ترجم بواسطة:

ريغي وفاء

دقق بواسطة:

زينب محمد

يهتم علماء الأعصاب بكيفية عمل العقول ويركزون بشكل طبيعي على الخلايا العصبية، وهي الخلايا التي يمكنها نقل عناصر الإحساس والتفكير إلى بعضها البعض عبر الذبذبات الكهربائية. ولكنّما يستحق الدراسة بنفس القدر هو وجود مادة بينهما – طبقة لزجة على السطح الخارجي لهذه الخلايا العصبية.

تبدو تقريبًا مثل الغضروف الموجود في أنوفنا ومفاصلنا، تتشبث هذه الأشياء مثل شبكة صيد ببعض خلايانا العصبية ما ألهمنا أن نسميها اسم شبكات ما حول العصبونات perineuronal nets (PNNs). إنها تتكون من سلاسل طويلة من جزيئات السكر مرتبطة بسقالات بروتينية، وهي تحافظ على الخلايا العصبية في مكانها مما يمنعها من النمو وتكوين روابط جديدة.

عند النظر إلى هذه القدرة، فإن هذا الغلاف العصبي غير المعروف يوفر  إجابات لبعض الأسئلة المحيرة حول الدماغ: لماذا تمتص أدمغة الشباب المعلومات الجديدة بهذه السهولة؟ لماذا يصعب نسيان الذكريات المخيفة المصاحبة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)؟ لماذا يصعب التوقف عن الشرب بعد الاعتماد على الكحول؟ ووفقًا لبحث جديد أجراه عالم الأعصاب أركادي خوتورسكي وزملاؤه في جامعة ماكجيل، فإننا نعلم الآن أن شبكات ما حول العصبونات PNNs تشرح أيضًا سبب تطور الألم واستمراره لفترة طويلة بعد إصابة العصب.

يمكن للشبكات العصبية التغير استجابةً لتجارب الحياة أو إصلاح نفسها بعد إصابة الدماغ بفضل المرونة العصبية، تدعى فرص التغيير السهل هذه بالفترات الحرجة عندما تحدث في وقت مبكر من الحياة. ضع في اعتبارك مدى سهولة تعلم الأطفال للغة، ومدى صعوبة تعلم لغة أجنبية كشخص بالغ. ما نريده هو: بعد تشكيل الشبكات العصبية المعقدة التي تسمح لنا بفهم لغتنا الأم، من المهم أن تُغلق، لذلك تظل الشبكات غير مضطربة نسبيًا لبقية حياتنا بطريقة ما.

يعني ذلك أنه بعد مدة حرجة تصبح الشبكات العصبية مقاومة للتغيير وتعتبر شبكات ما حول العصبونات سببًا أساسيًا. تتشكل عبر الخلايا العصبية وتثبّت أسلاك الشبكة العصبية في مكانها مع نهاية الفترة الحرجة. يحدث هذا غالبًا بين عمر 2 و8 سنوات. 

ولكن تتشكل شبكات ما حول العصبونات PNNs أيضًا على الخلايا العصبية في مرحلة البلوغ بالاقتران مع سلوكيات يصعب كسرها أو في تكوين ذكريات طويلة المدى. إذا تمكنا من تأخير إغلاق الفترات الحرجة أو إعادة فتحها بطريقة ما في وقت لاحق من الحياة، فسيؤدي ذلك إلى استعادة المرونة العصبية للشباب وتعزيز التعافي من الإصابة والتخلص من الاضطرابات العصبية الصعبة التي تقاوم التغيير.

تُظهر الأبحاث الحديثة أنه يمكن فعل ذلك بالتأكيد، ببساطة عن طريق التلاعب بـشبكات ما حول العصبونات PNNs. على سبيل المثال، يؤدي الاحتفاظ بالحيوان في ظلام دامس إلى إبطاء تطور العصبونات العصبية في الرؤية، مما يمنح المرونة العصبية فترة أطول من أجل تصحيح مشاكل الرؤية. يمكن أن تؤدي العوامل الكيميائية والتلاعب الجيني أيضًا إلى تدهور شبكات ما حول العصبونات PNNs وإعادة فتح الفترات الحرجة. وفعل الباحثون ذلك لجعل الفئران تنسى الذكريات التي تسببت في اضطراب ما بعد الصدمة (في حالتهم، ذكريات صدمة كهربائية أُعطيت عقب سماع نغمة).

يمكن أيضًا تحفيز نمو شبكات ما حول العصبونات. يحدث هذا عندما يشرب الشخص الكحول بكثرة، مما يؤدي إلى تكوُّن هذه الشبكات على الخلايا العصبية المسؤولة عن الإدمان. يُعتقد أن الغلاف يحمي الخلايا العصبية من السمية الكيميائية للكحول، ولكنه أيضًا يُغلق عملية التفكير الذي يثير رغبة شديدة في الشرب.

أدت محاولة علماء الأعصاب في فهم شبكات ما حول العصبونات بعمق على مدى العقود القليلة الماضية إلى اكتشاف تأثيرها على الألم مزمن وكان هذا الاكتشاف حديثًا ومفاجئًا.

يوسع هذا العمل تأثير الشبكات إلى ما بعد الفترات الحرجة، لا يحسن فهمنا للعلم الأساسي للألم فحسب، بل يعطينا أيضًا صورة أفضل عن شبكات ما حول العصبونات نفسها.

عندما يستمر الألم لفترة طويلة بعد الإصابة فهو ألم مزمن يعكس تغيرًا في الدوائر العصبية يصعب التغلب عليه. عندما يُؤلمنا شيء ما فإن الجسم كله يتداعى مع الألم، تنقل الخلايا العصبية المتخصصة للألم في جميع أنحاء الجسم النبضات العصبية إلى النخاع الشوكي الذي ينقلها بدوره إلى الدماغ هذا يعني أن النخاع الشوكي يؤدي دورًا رئيسيًا في إحساسنا بالألم.

في الواقع، يعالج الأطباء عادةً آلام الولادة عن طريق إعطاء حقنة فوق الجافية، التي تتضمن حقن مواد التخدير في المساحة المحيطة بالحبل الشوكي القطني، مما يمنع النبضات العصبية من الوصول إلى الدماغ.

تخيل الآن أنه بدلاً من كبح النقل العصبي في هذه المرحلة، أصبحت إصابة الأعصاب لتلك الخلايا العصبية شديدة الحساسية بحيث إنّ اللمسة اللطيفة في المنطقة المصابة قد تتسبب في وابل من النبضات العصبية للانتقال أعلى النخاع الشوكي، مسجَلة على أنها ألمٌ شديد. حددت الأبحاث السابقة العديد من الآليات التي يمكن أن تسبب فرط الحساسية ولكن لم يتوقع أحد أن لشبكات ما حول العصبونات دور في ذلك.

رأى خوتورسكي قبل بضع سنوات بحثًا يفيد بأن العصبونات العصبية تغلف بعض الخلايا العصبية الصغيرة في منطقة من دماغ حيث تُنقل معلومات الألم. تشكل هذه “العصبونات المتوسطة المثبطة” inhibitory interneurons مشابكًا عصبية على الخلايا العصبية للألم، مما يكبح قدرتها على نقل إشارات الألم. جعل ذلك خوتورسكي يتساءل عما إذا كانت شبكات ما حول العصبونات تفعل شيئًا مشابهًا في نقطة تتابع الألم الحرجة داخل الحبل الشوكي وطلب من طالبة الدراسات العليا شانون تانسلي أن تنظر في الأمر وقال خوتورسكي: “في ذلك الوقت لم يكن هناك شيء معروف”.

أُلهمت هذه النتيجة فريق خوتورسكي بإجراء تجارب على الفئران المختبرية لتحديد ما إذا كانت هذه الشبكات متورطة بطريقةٍ ما في الألم المزمن بعد إصابة الأعصاب الطرفية. قطعوا فروع عصب الساق الخلفية لفأر المعروف باسم الوركِي، عندما كان تحت التخدير العام إسقاطًا على الإصابات الوركية عند الإنسان التي يُعرف أنها تسبب الألم المستمر.

 قاس فريق خوتورسكي بعد أيام عتبة الألم لدى الفأر باختبارات غير ضارة، مثل: توقيت مدى سرعة ارتداده عن سطحٍ دافئ. كما هو متوقع رأى الفريق أن عرض الفأر يزيد بشكل حاد من حساسية الألم – لكنهم لاحظوا أيضًا أن الخلايا العصبية الوراثية حول الخلايا العصبية المسقطة قد تلاشت. مثلما تؤثر تغيرات الدماغ خلال الفترات الحرجة على شبكات ما حول العصبونات، فإن التغييرات المفاجئة بعد إصابة العصب في الفأر قد عدلت شبكات ما حول العصبونات في دائرة ألم النخاع الشوكي.

اكتشف الفريق بعد ذلك سبب تدمير الشبكات: الخلايا الدبقية في الدماغ والنخاع الشوكي التي تبدأ الإصلاحات بعد المرض والإصابة. لاختبار العلاقة بين الخلايا الدبقية الصغيرة والألم، لجأ الفريق إلى الفئران التي لا تمتلك خلايا دبقية صغيرة تقريبًا (أصبح ذلك ممكنًا بفضل الهندسة الوراثية) وأجرى نفس العملية.

ظلت شبكات ما حول العصبونات في هذه الفئران سليمة بعد جراحة العصب الوركي لم تصبح الفئران شديدة الحساسية للمنبهات المؤلمة بشكل ملحوظ. لتأكيد الاتصال، استخدم الفريق وسائل مختلفة لإذابة الشباك، مما أدى إلى زيادة حساسية الفئران للألم.

أثبت هذا أن شبكات ما حول العصبونات كانت تقمع مباشرةً حساسية الألم واكتشف فريق خوتورسكي كيف تعمل من خلال قياس الإرسال المتشابك باستخدام الأقطاب الكهربائية. تسبب تدهور شبكات ما حول العصبونات في تفاعل متسلسل أدى إلى زيادة الإشارات من الخلايا العصبية الإسقاطية التي ترسل إشارات الألم إلى الدماغ.

عندما استجابت الخلايا الدبقية الصغيرة لإصابة العصب ضَعُفَ تأثير الخلايا العصبية المثبطة التي عادةً ما تثبط إثارة العصبونات الإسقاطية في الدماغ فكان فقدان مكابحها المثبطة يعني إطلاقًا عصبيًا سريعًا وألمًا شديدًا.

تطلق الخلايا الدبقية الصغيرة العديد من المواد التي تجعل الخلايا العصبية المؤلمة شديدة الحساسية بعد إصابة العصب، ولكن تأثيرها غير المتوقع على العصبونات الدبقية العصبية له ميزة كبيرة: الخصوصية.

قال خوتورسكي: “ما تفعله عادةً شبكات ما حول العصبونات أنها تحافظ على المرونة وتحمي الخلايا أيضًا، فلماذا تكون هذه الشبكات حول الخلايا العصبية التي تنقل الألم فقط، وليس حول أنواع الخلايا الأخرى القريبة؟ هناك شك في أن السبب في ذلك هو أن نقطة ترحيل الألم في الحبل الشوكي مهمة جدًا لدرجة أن هذه الخلايا العصبية ووصلاتها تحتاج إلى حماية إضافية حتى تكون سيطرتها على انتقال الألم قوية وموثوقة. يمكن أن يعطل شيء دراماتيكي كالإصابة العصبية هذا الاستقرار.

قال خوتورسكي: “يكمنُ جمال هذه الآلية أنها انتقائية لأنواع خلايا معينة”. تُطلق المواد الدبقية الصغيرة لزيادة النبضات العصبية وتسبب الألم بعد إصابة عصبية تؤثر على جميع أنواع الخلايا في المنطقة المجاورة، لكن شبكات ما حول العصبونات تغلف فقط هذه الخلايا العصبية بدقة عند نقطة الترحيل الحرجة في الحبل الشوكي”.

تجرى الأبحاث لفهم هذه الآلية الجديدة للألم المزمن بشكل أفضل. إذا تمكن الباحثون من تطوير طرق لإعادة بناء شبكات ما حول العصبونات على هذه الخلايا العصبية بعد الإصابة، فيمكن أن توفر علاجًا جديدًا للألم المزمن، ما نحن بحاجة ملحة له بالنظر إلى أن المحلول الحالي من المواد الأفيونية تفقد فعاليتها بمرور الوقت ويمكن أن تصبح مسببة للإدمان أو تؤدي إلى جرعة زائدة مميتة.

ما يحدث داخل الخلايا العصبية أمر رائع ومهم للفهم، لكن الشبكات العصبية تتكون من عصبونات فردية مرتبطة ببعضها البعض، وهنا يكون الرابط الغضروفي المهمل في َالفراغ بينهما أمرًا حيويًا. َ

المصدر: https://www.quantamagazine.org

ترجمة: وفاء ريغي

تويتر: @righi_wafa27

مراجعة وتدقيق: زينب محمد


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!