crossorigin="anonymous">
14 ديسمبر , 2024
الحيّ والجماد..
الأحياء الدقيقة والبترول..
البكتيريا ومناطق استخراج النفط وإنتاجه..
مصطلحاتٌ تتباعد في مدلولاتها .. لكنّها قد تتقارب في حصول النفع والفائدة باجتماعها ..
كائن حيّ يسعى للحصول على الغذاء والطاقة في بيئة صعبة مليئة بالملوثات!
(ضِدانِ لمّا استُجمعا حَسُنا .. والضّدُّ يُظهِر حُسنَهُ الضِّدُّ!)
فكيف يجتمع الضّدّان! فيتغذى الحيّ منهما على الآخر ليحصل على طاقته! فيقضي بذلك على التلوث الحاصل في البيئة!
بل كيف تنشأ علاقة نافعة بين المتناقضين! لتُسفِر عن بديلٍ مُستدام لإنتاج الطاقة!
سخّر الله هذه الكائنات المجهرية التي تحيط بنا لتكون عاملًا من عوامل التوازن البيئي؛ فهي تعيش بيننا وتحلّل من حيث لا نشعر بها فضلا عن عدم قدرتنا على رؤيتها بالعين المجردة.
إنّها ألطاف الله التي تحيط بنا، وتعمل ليل نهار ،ولاندركها بحواسنا المحدودة.
وحين يأتي الأمر الإلهي بالإصلاح وعدم الفساد في الأرض في قوله تعالى: « وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ» سورة الأعراف – الآية 56، نجد أنّ الإنسان يسير في هذه الأرض ويعمل ويسعى ويبذل حتى يعيش حياة كريمة صحيّة مُستغلًا الموارد الطبيعية التي سخرها الله له؛ لكن من المفارقة العجيبة أنه قد يُسيء استخدام هذه الموارد رغم حرصه على التقدم والتطور!، فيحصل الفساد على هذه الأرض وينجم التلوث بشتى أنواعه في البّر والبحر والمناخ بما كسبت أيدي الناس حاملًا معه أضرارًا جسيمة على الكائنات الحيّة والبيئة المحيطة به.
وإذا تلفتنا حولنا وجدنا بعضًا من أنواع البكتيريا قادرة على توفير بعضٍ من الحلول؛ وذلك بتحليل الهيدروكربونات البترولية في النظم البيئية الملوثة؛ ويكون هذا الإجراء نافعًا للبيئة مُخَلِصًا من مخلفات التلوث النفطي، كما أنّ هذه البكتيريا تحوّل نفايات البترول إلى وقود حيويّ، ممّا يوفر بديلاً مستدامًا لطرق إنتاج الطاقة التقليدية.
إنّه التحلل البيولوجي الميكروبي في معالجة التلوث البيئي الناجم عن الهيدروكربونات البترولية، وخاصّة في المناطق التي تحوي أنشطة استخراج وإنتاج ومعالجة النفط.
فماهي البدائل والحلول؟ وماهي هذه البكتيريا؟ وأين توجد؟ وما آلية عملها؟ وما مزايا المعالجة البيولوجية؟ وما الإمكانات والتحديات المستقبلية لتوسيع نطاق هذه الأساليب عالميًا؟
تساؤلات نحاول الإجابة عليها، واستدراكات نسلّط الضوء عليها في هذا المقال الذي يهدف إلى الحديث عن دراسة كيفية تلاقي علم الأحياء الدقيقة مع البترول، و تحديد أنواع من السلالات البكتيرية من تربة ملوثة بالهيدروكربونات في المملكة العربية السعودية يُمكنها تحلل الهيدروكربونات البترولية بأنواعها المختلفة وبشكل فعّال، وبالتالي توفير حلٍ محتمل للإصلاح البيولوجي في البيئات الملوثة بالنفط، والاستفادة من الميكروبات لتحويل هذه النفايات إلى طاقة مستدامة.
كما يهدف إلى دراسة الميكروبات التي تحلل الهيدروكربونات في البيئات البحرية، مع مبادئ الاقتصاد الأزرق لمعالجة التحديات البيئية التي يفرضها تلوث البترول وتغير المناخ.
في مناطق استخراج النفط ومعالجته تُشكّل الانسكابات البترولية تهديدًا بيئيًا مُروّعًا، كما أنّ عمليات التكرير فيها تزيد من تعقيد وسُميّة الهيدروكربونات.. خاصة الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات (PAHs) الموجودة في الهواء والتربة، والمعروفة بخصائصها المسرطنة والمسببة للطفرات والتشوهات؛ مما يؤكد الحاجة المُلحة إلى إيجاد طرق فعّالة لإزالة هذا التلوث الخطير الناجم.
وعلم الأحياء الدقيقة للبترول الذي يُعنى بدراسة الكائنات الحية الدقيقة التي تحلل المنتجات البترولية، هو علمٌ بالغ الأهمية لتطوير أساليب نافعةٍ للبيئة لإدارة تلوث البترول في النظم البيئية المتنوعة.
كما تعدّ هذه المعالجة البيولوجية باستخدام المزارع البكتيرية تقنية فعّالة من حيث قلة التكلفة ومنفعتها للبيئة، وتعتمد في نجاحها على إمكانية التخلص من تلوث البترول، أو تحويله إلى شكل غير ضار.
وقد لوحظت بعض الأدوار والتغيرات والتكيفات لمختلف أنواع البكتيريا في تحلل الهيدروكربون، وخاصّة في الظروف البيئية الصعبة مثل الانسكابات النفطية.
ففي دراسة نُشرت عام 2023م استخدمتْ فيها الكائنات الحيّة الدقيقة الميثانوتروفية الميثان -وهو أبسط الهيدروكربونات- مصدرًا للطاقة والكربون، في حين أنّ هذه البكتيريا لا تستطيع النمو على الهيدروكربونات الأكبر حجمًا.
أما البيرين فهو هيدروكربون معقد، كاره للماء، ومقاوم للتحلل، وقد وُجِد أنّه يمكن للبكتيريا مثل الميكوباكتيريوم تحليل البيرين واستخدامه كمصدر للطاقة.
وعن آلية عمل هذه البكتيريا مع الانسكابات النفطية، نجد أنّ تبخر الهيدروكربونات المتطايرة، يُخلف هيدروكربونات أثقل، فتلتصق البكتيريا المؤكسدة للهيدروكربونات بقطرات النفط، مما يساعد في التحلل.
تتكيف بعض البكتيريا، مثل ستينوتروفوموناس، ورودوكوكوس، وأسينيتوباكتر، والزائفة الزنجارية، عن طريق تغيير خصائص الخلايا مثل كراهية الماء لتعزيز تحلل الهيدروكربون.
توجد البكتيريا Acinetobacter وPseudomonas وEnterobacter في بيئات متنوعة، مما يجعلها مفيدة في المعالجة البيولوجية بسبب قدرتها على التكيف (1).
أُجري بحث آخر بعنوان: “التحلل البيولوجي للهيدروكربونات البترولية باستخدام سلالة بكتيرية جديدة معزولة من تربة ملوثة بالهيدروكربونات في المملكة العربية السعودية” قام فيه الباحثون بتحديد وعزل وتوصيف سلالة بكتيريا قادرة على تحلل الهيدروكربونات البترولية في التربة الملوثة، جُمعت فيه عينات من التربة من مواقع ملوثة، وأُخضعت للزراعة الميكروبية لعزل البكتيريا القادرة على تحلل الهيدروكربونات، كما وصفت السلالة البكتيرية المعزولة باستخدام تقنيات تعتمد على الصفات الظاهرية الشكلية والكيميائية الحيوية والجزيئية (مثل تسلسل 16S rRNA) لتحديدها بدقة على مستوى الأنواع.
وقد أُجريت تجارب لتقييم كفاءة هذ السلالة البكتيرية في تحلل مركبات الهيدروكربونات البترولية المختلفة بمرور الوقت، وحددت الدراسة سلالة بكتيرية جديدة ذات قدرات تحلل بيولوجي عالية، كما أظهرت هذه السلالة كفاءة عالية في تحلل الهيدروكربونات المختلفة، مما يؤكد على إمكاناتها الواعدة في تطبيقات المعالجة البيولوجية.
في هذه الدرسة حُددت الظروف المثلى لتحلل الهيدروكربونات، مثل: الرقم الهيدروجيني، ودرجة الحرارة، وتوفر المغذيات؛ لزيادة معدل التحلل البيولوجي، وقد حُددت الاختبارات الكيميائية الحيوية ونتائج 16S rRNA أنواعًا مختلفة من بكتيريا تعرف ب : Microbacterium spp، وهي:
Microbacterium barkeri و Microbacterium deserti المعزولتان من التربة الملوثة بالهيدروكربون.
نجد أنه في غضون خمسة أيام، أظهرت هذه السلالات البكتيرية نسب تحلل لمخلفات البترول بمقدار 20.91٪ و38.51٪ و77.68٪ و22.51٪ و31.11٪ ، وعلاوة على ذلك، فقد أنتجت هذه العزلات البكتيرية مستحلبًا مستقرًا بنسبة E−24% من 25% لمدة 72 ساعة، وبالتالي تظهر هذه السلالة المعزولة إمكانات واعدة لتنظيف البيئات الملوثة بالبترول في المملكة العربية السعودية (2). هذه الأبحاث التي تعتمد على استخدام البكتيريا في تحلل المخلفات النفطية تساهم في تقديم طريقة صديقة للبيئة وفعّالة من حيث التكلفة لإدارة تلوث الهيدروكربون.
ومن ناحية أخرى، وبناءً على التقارير الواردة من منظمة الصحة العالمية فإنّ تغير المناخ له آثار ملموسة ومحسوسة على البيئة، حيث تشير التقديرات إلى أنّ حالة وفاة واحدة من بين أربع وفيّات يمكن أن تُعزَى إلى أسباب بيئية يمكن الوقاية منها، وأنّ تغير المناخ يؤدي إلى تفاقم هذه المخاطر.
وينتج عن تغير المناخ الكثير من الأضرار الصحيّة المعقدة، بدءً من الظواهر الجوية المتطرفة وانتهاءً بانتشار الأمراض المُعديَة وتفاقم الحالات المزمنة؛ فهو أمر لا يمكن الوقاية منه باللقاحات، أو علاجه بالمضادات الحيوية! ولكننا قادرون -بفضل الله- على التخفيف من آثاره بحسن التعامل مع الموارد البيئية، والإحسان في استغلالها، وتجنب الأضرار، وفرض حلول مستدامة من تقليل الانبعاثات والمخلفات، وحسن الإدارة في التخلص منها في جميع القطاعات لاحتواء تغير المناخ.
وإذا لم نتحرك قدما فإنّ تغير المناخ سوف يجتاح نُظُم العالم الصحية عمَّا قريب، وسوف تزداد حدّة الظواهر الجوية المتطرفة في تواترها وشدّتها كالجفاف، والفيضانات، وارتفاع درجة الحرارة، والاحتباس الحراري، وما ينشأ عنها من آثار ضارة على البيئة والإنسان (3).
يؤدي تغير المناخ إلى تكثيف القضايا المتعلقة بانسكابات النفط وتلوث الهيدروكربون في المحيطات، مما يجعل المعالجة البيولوجية الميكروبية ضرورية بشكل متزايد، كما أنّ درجات الحرارة المرتفعة تؤثر على المجتمعات الميكروبية، مما يؤثر على قدرتها على تحلل الهيدروكربونات.
لجأ الكثير من الباحثين إلى تبي مفهوم الاقتصاد الأزرق وهو نهج اقتصادي مستدام لإدارة موارد المحيطات يركز على الموارد القائمة على المحيطات ويوازن بين الصحة البيئية والنمو الاقتصادي والدمج الاجتماعي.
هناك ورقة مراجعة نّشرت عام 2011م بعنوان “الاقتصاد الأزرق: عصر جديد من علم الأحياء الدقيقة للبترول في ظل مناخ متغير” أكدت على دور علم الأحياء الدقيقة للبترول في سياق الاقتصاد الأزرق في مواجهة تغير المناخ.
تؤكد هذه المراجعة المنشورة على استخدام الميكروبات المحللة للهيدروكربونات لإزالة الملوثات بشكل طبيعي من البيئات البحرية، بما يتماشى مع أهداف الاقتصاد الأزرق للحفاظ على صحة المحيطات مع معالجة التلوث الصناعي (4).
وفي كتاب نُشر فصلاً منه عام 2022 م بعنوان: (العلاقة بين الميكروبات والبيئة من أجل خدمات النظم البيئية المستدامة) أبان فيه الضوء عن إمكانية إنتاج الوقود الحيوي مثل: الديزل الحيوي والإيثانول الحيوي والبيوتانول الحيوي بواسطة الكائنات الحية الدقيقة؛ وخاصّة البكتيريا، فمن الكائنات الحية الدقيقة التي لها دور في إنتاج هذه الطاقة النظيفة، على سبيل المثال: الإشريكية القولونية، والبكتيريا الزرقاء، والطحالب (5).
أخيرًا .. علم الأحياء الدقيقة له منافع في قدرته على التكيف وتحلل المخلفات النفطية وبالتالي دعم أهداف الاقتصاد الأزرق من خلال توفير حلول معالجة بيولوجية مستدامة للتلوث النفطي البريّ والبحريّ، كما تؤكد هذه المقالة على إمكانات الحلول الميكروبية في إطار الاقتصاد الأزرق للتخفيف من تلوث البترول في المحيطات، وتعزيز الممارسات المستدامة في مواجهة التغيرات البيئية.
تدعو هذه المقالة إلى بذل جهود تعاونية بين العلماء وصناع السياسات والصناعات لدمج المعالجة البيولوجية الميكروبية في ممارسات إدارة البيئة بما فيها المحيطات المستدامة، كما يوصى بإجراء المزيد من البحوث لتحسين فعالية التطبيقات الميكروبية في البيئات البرية والبحرية المتنوعة والمتغيرة المتأثرة بتغير المناخ، وإجراء المزيد من البحوث لاستكشاف تطبيق هذه السلالة البكتيرية في مشاريع المعالجة البيولوجية الميدانية واسعة النطاق.
قائمة المصادر:
بقلم: د. غادة بنت عبدالعزيز آل الشيخ مبارك
تويتر: @Ghadah_Mbrk
مراجعة وتدقيق: زينب محمد
اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية
اترك تعليقاً