تشخيص طبيّ نفسانيّ لمن لا تكفّ ألسنتهم عن الكذب

تشخيص طبيّ نفسانيّ لمن لا تكفّ ألسنتهم عن الكذب

19 أبريل , 2023

ترجم بواسطة:

مصعب الفضيلات

دقق بواسطة:

سقاف العيدروس

دروس رئيسة تقدمها البحوث المتعلقة بداء الكذب التوهمي.

“إن الكذب لحقيقة ثابتة في طبيعة البشر جميعهم دون استثناء. وجه الاختلاف الوحيد هو السبب الذي يكذبون بخصوصه”.

هيو لوري

من باب قول الحق، نحن جميعًا نكذب. تسعون بالمئة من تصرفاتنا الخداعة هي كذبات بيضاء نقولها إما لنحمي أنفسنا، أو نتفادى الوقوع في المصائب، أو حتى بهدف مراعاة مشاعر الغير. في معظم الأحوال، فإن الكذبات التي نكذبها لها دوافع خارجية، فهي بعادتها وسيلة دفاع للهروب من عواقب قول الحقيقة، فقد يكذب أحدهم قائلًا: “أقسم أني لا أعلم أين ذهب طبق الكعك ذاك!”. وقد تكون بعض الكذبات كذباتٍ تكتيكية نحو: “لم يصلني بريدك الإلكتروني أبدًا!” أو قد تكون عبارات يملؤها الإيثار الخادع مثل “إنك تبدين جميلة للغاية في هذا الفستان”.

قد يكون الكذب جزءً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، لكن هناك فرق شاسع بين الكذب العادي والكذب المرضي؛ الذي  يُطلق عليه اسم داء الكذب التوهمي (pseudologia fantastica). يُعد الطبيب آنتون ديلبريك أول من قام بصياغة هذا المصطلح عام 1891 ليصف الظواهر التي تطرأ على مجموعة من الأشخاص الذين يتفوهون بكذبات مبالغ بها بوضوح، وتتعدى حدود المعقول وتغوص في الخيال، وبالنسبة للمستمع فهي بعيدة كل البعد عن الواقعية، ولكن بالنسبة للمرضى نفسهم تكون هذه الكذبات ضمن نطاق الواقعية. إن الأشخاص الذين يعانون من داء الكذب التوهمي يكذبون بصورة مستمرة ودائمة ومبالغ بها، ويستخدمون عبارات منمقة وكلامًا معسولًا.

ينغمس هؤلاء الأشخاص في “طقوس كذب مطبقة على أرض الواقع” حتى يروضوا لهفتهم الداخلية التي يقودها الكبرياء، والتي تدفعهم إلى تمني تغير حال عالمهم المحيط، ونظرة هذا العالم بمن فيه إليهم. فعلى سبيل المثال، لو كان لأحد جيرانك مركبة قديمة مهترئة ولكنها ذات معزة خاصة بالنسبة له، فقد تراوغ في قول الحقيقة وتحشو بعض الكلام بين السطور قائلًا: “أعتقد أن مركبتك مذهلة!” بينما من الناحية الأخرى، فإن أحد من يعانون من داء الكذب التوهمي قد يقول لجاره: “أنا أمتلك عشر مركبات رياضية قديمة الطراز، وجميعها في أحسن حال، وأحتفظ بها في عقاري الضخم في موناكو”. يكذب هذا الشخص الذي يعاني من داء الكذب التوهمي بغية تفخيم ذاته أمام جاره، وليس ليمدحه أو يثني عليه.

وعلاوةً على ذلك، فبعكس المخادعين الذين يكذبون سعيًا للمكاسب والمصالح الشخصية، فإن أكاذيب من يعانون من داء الكذب التوهمي تتجاوز إلى أبعد الحدود مقدار الكذب المطلوب لإنجاح عملية الاحتيال أو الخداع التي يخططون لها. فتلك الأكاذيب لا تتناسب في حجمها إطلاقًا مع أيٍّ من متطلبات المكاسب الشخصية الخارجية. تُعتبر الأكاذيب التي يتفوهون بها عادةً “خيالية ومثيرة للدهشة”، وتزل من ألسنتهم مثل الشعرة من العجين. يكذبون أحيانًا فقط لأنهم يستطيعون ذلك. فإن الشعور بالرضا عند إشباع رغبتهم في الكذب لَأمر فطري يسري في عروقهم وأصبح جزءً من طبيعتهم. هؤلاء هم ذاتهم من يكذبون حتى بخصوص ما تناولوه في وجبة الغداء!

السمات الرئيسة لمن يعانون من داء الكذب التوهمي

على الرغم من عدم وجود معايير أساسية للتعريف بمصطلح داء الكذب التوهمي، إلا أنه قد حُدّدت خصائص أساسية عدة لمن يعانون منه:

  1. يكذب من يعانون منه بشكل دائم، أو يسردون قصصًا ليس لها أساس من الصحة، وهذه الأكاذيب والقصص لا تمت بصلة لأي منفعة مادية واضحة، ولا تتناسب في حجمها مع أي هدف مادي.
  2. يمكن تصنيف قصصهم على أنها درامية، وكثيرة التفاصيل ومعقدة، كما أنها تتصف بالحماس الزائد والخيال.
  3. تسلط هذه القصص الضوء على من يسردها وكأنه البطل أو حتى الضحية، وتكون أحداثها موجهة إليه ليظفري بتقبل الآخرين له، وإعجابهم وتعاطفهم.
  4. من باب الدخول في صلب المعلومات المعمقة، فإن من يعاني من داء الكذب التوهمي عالق وسط نطاق يحده الخداع بوعي من جهة، والتوهم واللاوعي من الجهة الأخرى. فهو ليس دائمًا يدرك دوافعه للكذب، ويبدو عليه وكأنه يصدق حكاياته الكاذبة ولو بصورة متقطعة، لكنه لا يصل ذلك المستوى من الاقتناع بالكذبة التي يكذبها لدرجة أن يبدأ بالتشكيك بالواقع.

يُصاب أغلب الأشخاص العاديين بالخزي والخجل عندما تُكشف أكاذيبهم، لكن الحال يختلف تمامًا بالنسبة لمن يعانون من داء الكذب التوهمي. فعندما تواجههم بأكاذيبهم الخداعة وتضعهم تحت الأمر الواقع، فإنه لا يرمش لهم جفن، ولا يرتعشون خوفًا، ولا يتصببون عرقًا من هول الموقف، وينامون الليل ولا كأن شيئًا قد حصل. بل فوق ذلك يضاعفون من حجم أكاذيبهم، وأحيانًا يضيفون تفاصيلَ دقيقة و”يُبَهّرون” قصصهم ليبرروا أكاذيبهم.

وبناءً على ذلك، فإنهم عندما يُستجوبون بالأدلة القطعية، سيبدؤون وبتردد بالتراجع عن صحة حكاياتهم الطويلة. وهذا على نقيض من يعانون من الاضطرابات التوهمية الأخرى حيث يتشبث من يعاني منها بمعتقداتهم الثابتة الخاطئة مهما جرى. يتداخل داء الكذب التوهمي عادةً مع اضطراب الشخصية الحدية، واضطراب الشخصية الانطوائية، واضطراب الشخصية النرجسية. لكن ليس دائمًا. فأحيانًا يُعتبر من يعانون من داء الكذب التوهمي مجرد كاذبين لا أكثر.

ليس هناك علاج لداء الكذب التوهمي

إن استجواب أولئك الأشخاص ووضعهم أمام الأمر الواقع قد ينعكس سلبًا. وبقدر ما يبدو الأمر مغريًا أن تأخذ مجرى المحاكمة والاستجواب مع هؤلاء الأشخاص لتضعهم في موقف يجبرهم على الإقرار بالذنب، فإننا ننصحك بأن توفر طاقتك. فإن تسليط الضوء عليهم ومسائلتهم قد تحفز في داخلهم رغبة التملص من الحقيقة وفبركتها أكثر مما سبق. 

في بيئة دراسات طبية، هناك أدلة تشير إلى أن عدم إظهار الاهتمام بالحكايات المملوءة بالأكاذيب وصب الاهتمام على الشخص نفسه بدلًا من ذلك قد يساعد في التقليل من شعورهم في الحاجة إلى الكذب.

المصدر: Psychology Today

ترجمة: مصعب الفضيلات

لينكد إن: musaab-fudailat

مراجعة وتدقيق: سقاف العيدروس


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!