تزامُن عمل مناطق الدّماغ، خلال النوم، من أجل صنع الذّاكرة الحركيّة

تزامُن عمل مناطق الدّماغ، خلال النوم، من أجل صنع الذّاكرة الحركيّة

2 يناير , 2023

ترجم بواسطة:

أنس غطوس

دقق بواسطة:

زينب محمد

دراسة جديدة تكشف كيفية تدعيم الذّاكرة الحركيّة خلال النّوم

حين يقوم ستيف كوري، نجم فريق غولدن ستايت ووريورز (Golden State Warriors) لكرة السّلة، بتنفيذ رميةٍ حرّةٍ، فإن دماغه يستحضِر ذاكرته الحركيّة. في هذا الصّدد، أثبت دراسةٌ قام بها باحثون من جامعة سان فرانسيسكو كاليفورنيا (UCSF) كيف أن هذا الصّنف من الذاكرة يتم تدعيمه خلال النوم، حين يكون الدّماغ بصدد معالجة ما تعلّمه، بغرض جعل الحركة الجسدية اللازمة للقيام بأمر/حركة ما تتم بطريقة لا واعية.

تظهر الدراسة المنشورة في ديسمبر 2022، بمجلة نيتشر، أن الدماغ يقوم بهذه العملية عبر مراجعة المحاولات والأخطاء المتعلقة بحركة جسدية ما. وبالرجوع إلى المثال السّابق، فإن ذلك يعني إعادة عرض كل الرميات الحرّة التي قام كوري منذ أن بدأ ممارسة كرة السّلة، ومن ثمة مسح ذكريات كل الأفعال (أي الرّميات)، باستثناء تلك التي أصابت الهدف، أو تلك التي قرر الدماغ أنها “جيدة كفاية”.

والنتيجة هي القدرة على تنفيذ رمية حرة على درجة عالية من الدِّقة، دون أن يُضطرّ اللاعب إلى التفكير في الحركات الجسدية اللازمة للقيام بذلك.      

يقول د. كارونيش غانغولي: “حتى الريّاضيّون الممارسون على أعلى المستويات يرتكبون الأخطاء، وذلك ما يجعل المباراة مثيرة للاهتمام”. ويضيف بروفيسور علم الأعصاب بجامعة سان فرانسيسكو وعضو معهد ويل لعلوم الأعصاب (UCSF Weill Institute for Neurosciences): “إن الذاكرة الحركيّة لا تتعلق بالأداء المثالي؛ بل تتعلّق بالأخطاء – وكذا النجاحات – المتوقَّعة. فإذا ظلّت الأخطاء ثابتة من اليوم إلى اليوم الموالي، فإن الدماغ يقول: ‘فلنحبِس الذكرى”.

وقد وجد البروفيسور غانغولي وفريقه أن عملية “حبس الذكريات” تنطوي – لغرابة الأمر – على أنواع معقّدة من التواصل بين مختلف مناطق الدّماغ، وتحدث خلال مرحلة السّباتِ العميق التّرميميّ، المعروفة باسم النوم غير الريمي (non-REM sleep).

تتجلّى أهّمية النوم في كون عقلنا الواعي ميّالًا إلى التركيز على الإخفاقات، حسب د. غانغولي، الذي سبق أن حدد الموجات الدماغية المرتبطة بالنوم والتي تؤثر على الحفاظ على المهارات المكتسبة. وفي ذلك يقول: “خلال النّوم، يستطيع الدماغ تدقيق كل الحالات التي مرت عليه، ومن ثمة إبراز الأنماط التي كُلِّلت بالنّجاح”.

المهارات الحركية الأرضية لن تكون مفيدة على كوكب باندورا من فيلم “آفاتار”

كان شائعًا فيما مضى أن تعلم المهارات الحركية لا يتطلب سوى عمل القِشرة الحركيّة (motor cortex). لكن في السنين القليلة الماضية، برزت لنا صورةٌ أكثر تعقيدًا.

من أجل معاينة هذه العملية عن قرب، قام د. غانغولي بإعداد فئران مختبر لمهمة إيجاد حبّات بندق. بعد ذلك، قام فريق الباحثين بتتبّع نشاط أدمغة القوارض على ثلاثة مناطق خلال مرحلة النوم غير الريمي: الحُصَين (hippocampus)، وهو الجزء المسؤول عن الذكريات والتنقّل، القِشرة الحركيّة (motor cortex)، وكذا قِشرة الفصّ الجَبهيّ (prefrontal cortex).

بدايةً، في عملية يُطلق عليها التعلّم السّريع، تقوم قشرة الفص الجبهي بالتّنسيق مع الحُصَين، على الأرجح بغرض تمكين الحيوان من إدراك حركته بالنسبة إلى الفضاء المحيط به وكذا موقعه داخل ذلك الفضاء. خلال هذه المرحلة، بدا أن الدماغ يكتشف ويقارن كل الأفعال/الحركات والأنماط التي نشأت خلال تأدية ذلك النشاط.

ثانيًا، في مرحلة تسمى التعلّم البطيء، بدا أن قشرة الفصّ الجبهي تقوم بإطلاق أحكام قيمة، ويُرجّح أن ما يحفّز ذلك هي مراكز المكافأة التي تم تنشيطها حين كُلِّل النشاطُ بالنّجاح، إذ انخرطت هذه الأخيرة (أي مراكز المكافأة) في تواصل مع القشرة الحركية والحُصَين، حتى تحجب الرسائل المتعلّقة بالفشل وتدفع بتلك المتعلّقة بالنّجاح إلى الأمام.

وأخيرًا، حين أصبح النشاط الكهربائي لتلك المناطق متناغِمًا، تقلّص دور الحُصَين، وبرزت الحالات التي سجّلها الدّماغ على أنها “مثمِرة”، وتم تسجيلها فيما يسمى الذاكرة الحركيّة.

حين كانت الفئران بصدد بداية تعلّم كفيّة القيام بالمهمة، كانت إشارات أدمغتها صاخبةً ومبعثَرةً. ومع مرور الوقت، استطاع د. غانغولي أن يلاحظ أن الإشاراتِ بدأت تتآلف جميعُها وتتناسق، إلى أن صارت الفئران قادرة على النجاح في سبع مرات من أصل كل عشرة (أي بنسبة 70%). بعد تلك النقطة، بدا أن الدماغ يتجاهل الأخطاء ويحافظ على الذاكرة الحركيّة مادام مستوى النّجاح ثابتًا. بعبارةٍ أخرى، بدأ الدماغ بتوقّع مستوى محدد من الخطأ/الإخفاق، وتوقّف عن تَحيينِ الذّاكرة الحركية.

فتمامًا مثل لاعبي دوري كرة السلة للمحترفين (NBA)، أتقنت الفئران مهارةً تعتمد على نموذج ذهني للطريقة التي يعمل بها العالَم، وهو نموذج أُنشئ بناءً على تجاربها السّابقة مع الجاذبية، الفضاء، وكذا إشاراتٍ أخرى. لكن هذا النوع من التعلّم الحركي لن يتم تحويله واستغلاله بيُسرٍ في وضعيةٍ يكون فيها المحيط المادي والإشارات مختلفَين.

يوضّح د. غانغولي ذلك قائلًا: “لو تغيّرت كل تلك الظروف، على سبيل المثال، لو أن ستيف كوري كان في عالم ‘آفاتار’، فإنه لن يبدو على ذلك المستوى من المهارة”. (أي أنه سيفقد تلك المهارة).

أفضل طريقة للتّخلّص من عادةٍ ما                      

ماذا لو تعرّض كوري لإصابة على مستوى أحد أصابعه وتوجّب عليه تعلّم رمي كرة السلّة بطريقة مختلفة؟

توفر هذه الدرّاسة إجابةً على ذلك.

يقول د. غانغولي: “من الممكن حذف تعلم مهارةٍ بعد تعلّمها، ولكن للقيام بذلك، سيتوجب عليك دفع الوضعيّة إلى درجةٍ ترتكب فيها الأخطاء خلال قيامك بذلك النّشاط”.

حين قام الباحثون بإحداث تغييرات طفيفة على مهمة الفئران في إيجاد حبات البندق، باتت الفئران ترتكب أخطاءً أكثر، ورأى الباحثون فوضى أكبر على مستوى نشاط أدمغتها.

كان التغيير طفيفًا بحيث لا تُضطر الفئران إلى الرجوع إلى نقطة بداية التعلم، ولكن فقط إلى “نقطة الانعطاف” وإعادة تعلّم المهمّة من تلك النقطة.

ولكن، كما يوضّح د. غانغولي، بما أن الذاكرة الحركية تغدو مترسّخة كمجموعة من الحركات المتتالية عبر الزّمن، فإن تغيير الذاكرة الحركية في تحرّك جسديّ معقّد مثل رمية حرّة في كرة السّلة قد يتطلّب تغيير الحركة البَدئيّةِ، أي تلك التي تبتدئ بها السِّلسلةُ برمّتها.

فلو كان كوري مثلًا، يجعل الكرة ترتد مرّتَين عن الأرض قبل أن يمسكها وينفّذ رميَته، يقترح د. غانغولي أنه: “قد يكون من الأفضل تدريب الدماغ عبر جعل الكرة ترتد إما مرّة واحدة فقط، أو ثلاثًا. بهذه الطريقة، سيبدأ الدّماغ العمليّة بصفحةٍ جديدةٍ”.   

المصدر: https://neurosciencenews.com

ترجمة: أنس غطوس

مراجعة وتدقيق: زينب محمد


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!