خريطة الشهية بالعقل

خريطة الشهية بالعقل

20 يوليو , 2022

ترجم بواسطة:

عبد الله يحيى

دقق بواسطة:

زينب محمد

لنكن صرحاء، فعلى الرغم من إغراء فكرة بدء وجبة الغداء بتناول كعكة الشيكولاتة، إلا أن القليل منا سوف يقوم بذلك. ومع ذلك سيذهب الكثيرون لتناول هذه الكعكة في نهاية الوجبة بلا تردد؛ ويرجع السبب في ذلك إلى الحالات الداخلية للجسم البشري، والتي تتسم بكونها دائمة التغير؛ فبحلول موعد وجبة الغداء، غالبًا ما يحتاج الجسم للبروتينات، وبالتالي يحفز المخ الرغبة في الطعام الذي يحتوي على البروتين تحديدًا، وبعد هضم الجسم للبروتين، قد تكون الكربوهيدرات إضافة جيدة لسد حاجة الجسم من الدهون.

لكن نادرًا ما تكون تلك الحالات الداخلية للجسم أحادية البُعد، فقد تعاني امرأة من نقص عدة مواد غذائية بشكل متزامن (كالبروتينات والأملاح)، ويصادف مرورها بمرحلة الحمل في نفس الوقت؛ وهي المرحلة التي تستوجب احتياجات غذائية خاصة. ومن هنا ينشأ سؤال عن كيفية معالجة المخ لتلك الحالات الداخلية المتوازية لإرشاد وتكوين سلوك؟!

نُشرت دراسة بحثية في السادس من يوليو في مجلة نيتشر (Nature) تقدم رؤية جديدة لتلك المعضلة المعقدة، حيث يقول كارلوس ريبيرو، الباحث المسؤول في مؤسسة “ذا شامبليمود” بالبرتغال، والمشارك الأكبر سنًا بتلك الدراسة: “نُبين من خلال تلك الدراسة أن الطريقة التي يعالج بها المخ المدخلات الحسية تعتمد على ما إذا كان الحيوان ينقصه مواد غذائية معينة أم يمر بمرحلة الحمل، وقمنا بتحديد قاعدة عامة والتي من خلالها تُدمج الحالات الداخلية لتشكل طريقة عمل المخ وصناعة القرار. بالإضافة لذلك، تمكنا بتلك الدراسة من تطوير تخطيط مجهري جديد من شأنه أن يفيد في فهم الأساس العصبي للسلوك داخل نطاق اختيار الطعام وخارجه”.

المغامرة داخل مساحة عصبية مجهولة

ركز فريق الباحث روبيرو على دراسة منطقة عصبية غير مفهومة وذات صلة في مخ ذبابة دروسوفيلا أو ما تعرف بـ ذبابة الفاكهة، وتسمى تلك المنطقة “SEZ”، وذلك من أجل فحص كيف تساهم الحالات الداخلية للجسم في تشكيل السلوك. يُشاع الاعتقاد بأن تلك المنطقة تلعب دورًا محوريًا في اختيار نوع الطعام حيث إنها تستقبل غالبية مدخلات حاسة التذوق وتحمل الخلايا العصبية الحركية المتحكمة في عملية تناول الطعام، إلا أنه يصعب تعريف بُنيتها التشريحية جيدًا، نظرًا للتشابك الكثيف للألياف العصبية داخل تلك المنطقة.

قرر الفريق المشرف على الدراسة رسم خريطة أطلس وظيفية لمنطقة “SEZ” من أجل فهم ماهية عملها؛ أي أنهم عزموا على التعرف على البُنيات التي تشكل تلك المنطقة وإسناد أدوار وظيفية لكل منها. ولأجل ذلك الغرض، رسم دانيل مونش، الباحث الرئيسي في فريق الدراسة، إرشادات نشاط فلورية لكل الخلايا العصبية الموجودة في مخ الذبابة، ثم أنشأ صورًا دقيقة ثلاثية الأبعاد للخلايا العصبية لأربع مجموعات من الذباب، كلاً منها يمثل حالة داخلية معينة. وأسترسل دانيل مونش موضحًا: “لقد أردنا معرفة كيف يمكن لإثنين من مؤثرات الشهية للبروتين؛ ألا وهما نقص البروتين من جهة، وحالة الحمل من جهة أخرى، أن يتفاعلا داخل المخ، ولتبيان ذلك حددنا أربع مجموعات تجريبية للذباب: العذراء المشبَّعة غذائيًا والعذراء المحرومة من البروتين، والمتزاوجة المشبَّعة غذائيًا، والمتزاوجة المحرومة من البروتين. سجلنا النشاط العصبي في منطقة “SEZ” للذباب أثناء تذوقهم لسكر القصب والماء والخميرة (مصدر البروتين الطبيعي للذباب)”.

خريطة الشهية

تتكون خريطة أطلس التي رسمها الفريق من 81 مساحة تغطي كامل منطقة “SEZ”. تلك المساحات تتواصل مع غالبية المناطق الحركية والحسية المذكورة سابقًا، وكذلك تتضمن مساحات جديدة غير مُتعرَّف عليها من قبل. يقول دانيل مونش: “تلتقط خريطة أطلس خاصتنا بعض المساحات العصبية المعروفة. على سبيل المثال، هناك مساحة على شكل فاكهة الموز والتي تستقبل مدخلات من خلايا التذوق العصبية المتواجدة في البروبوسيس (فم الذبابة)”، واستكمل حديثه: “واكتشفنا كذلك مساحة على شكل جناحين، مما دفعنا لتسميتها بمساحة البوربوليتا (تعني الفراشة باللغة البرتغالية) وتقبع في الجزء الخلفي من منطقة “SEZ”، واتضح فيما بعد أن تلك المساحة تلعب دورًا رئيسيًا في تحفيز الشهية للبروتين.

وبخلاف اكتشاف مساحات جديدة بتلك المنطقة، فإن هذه الخريطة كشفت عن تأثير الحالات الداخلية على النشاط العصبي أيضًا، كتحديدها لمساحة البوربوليتا كمحرك لاشتهاء البروتين. كما أنه لم يحدث اختلاف ملحوظ في استجابات المجموعات الأربعة إثر تذوقهم للماء وسكر القصب، بينما أدى التعرض للطعام الغني بالبروتين (الخميرة) إلى تأثير ملفت للإنتباه.

يقول دانيل مونش: “ازداد النشاط المستحث من خلال الطعام الغني بالبروتين بقوة في أجزاء شاسعة بمنطقة “SEZ” داخل الحيوانات المحرومة من البروتين، ومع ذلك فإن الحيوانات المتزاوجة أثرت فقط بالنشاط المرتبط بمساحات الأعصاب الحركية بالمنطقة، بدا ذلك مفاجئًا حيث من المعروف أن المتزاوجين والمحرومين من البروتين كلاهما يزداد لديه الشهية للبروتين، لذلك لم نتوقع أن نجد أنماط استجابة مختلفة”.

كذلك شهد فريق العمل بالدراسة التأثير التضامني الذي تملكه تلك الحالات الداخلية المجتمعة في وقت واحد على النشاط العصبي. يقول دانيل مونش مستشهدًا: “تملك الحيوانات الأنثوية المتزاوجة المحرومة من البروتين النشاط الأعلى في مساحات الحركة العصبية بمنطقة “SEZ”، وهذا يعني أنه على الرغم من أن هاتان الحالتان الداخليتان المتواجدتان في آنٍ واحد، الحرمان من البروتين والحمل، تعملان عبر حلقات عصبية مختلفة، ينتهي بهم الأمر متلاقيتين في مساحة واحدة لتحفيز الشهية للبروتين”.

التلاعب بالخلايا العصبية لحث الرغبة في البروتين

تعرَّف باحثو الدراسة على مساحات جديدة بمنطقة “SEZ”، وسجلوا تأثير المذاقات المختلفة والحالات الداخلية على النشاط العصبي بتلك المساحات الجديدة. لكن كيف لهم أن يعلموا ما إذا كانت تلك المساحات من شأنها بالفعل أن تؤثر على خيارات تفضيل طعام عن الآخر؟

يقول دانيل مونش: “حينها وجَّهنا انتباهنا لمساحة البوربوليتا التي اكتشفناها مؤخرًا، حيث حفز تذوق البروتين نشاطًا عصبيًا قويًا بتلك المساحة. واستنتجنا من ذلك أنه إذا كانت هذه المساحة حقًا ذات تأثير على السلوك، فسنتمكن وقتها من تحفيز الشهية للبروتين اصطناعيًا من خلال تنشيط الخلايا العصبية في هذه المساحة”.

استخدم باحثو الدراسة خريطة أطلس التي رسموها بمساعدة أطلس آخر يحتوي على رسم تخطيطي لأنماط الإمداد العصبي لمجموعة خلايا عصبية، حيث قاموا بتحديد خلايا عصبية بمساحة البوربوليتا وتنشيطها داخل الذباب المشبَّع غذائيًا الذي عادةً ما يفضل سكر القصب على بروتين (الخميرة). أسفر ذلك التلاعب عن زيادة ملحوظة في الشهية للبروتين بهذا الذباب.

استرجع دانيل مونش سلسلة تجاربهم قائلاً: “شعرنا أننا قطعنا شوطًا كاملاً: من مرحلة الملاحظة إلى مرحلة التوظيف. في البداية راقبنا التفضيلات الغذائية في مجموعات الذباب الأربعة، وانتبهنا إلى أن الذباب المتزاوج والذباب المحروم من البروتين كلاهما لديه تفضيل وشهية عالية للبروتين. ومن ثم صورنا النشاط العصبي داخل منطقة “SEZ”، رسمنا خريطة أطلس لتلك المنطقة، وميزنا مساحات جديدة داخلها. وفي النهاية تأكدنا من أن إحدى تلك المساحات العصبية لديها القدرة على توليد رغبة سلوك “الاشتهاء” من خلال التلاعب الاصطناعي بنشاط خلاياه العصبية”.

يضيف الباحث ريبيرو قائلاً: “وبشكل عام، يتيح لنا منهجنا البحثي التعرف على الخلايا العصبية وربطها بسلوكيات معينة ذات صلة باختيارنا للطعام الذي نتناوله، وربما سلوكيات أخرى”. ويختم حديثه: “يصعب تنفيذ تجربتنا هذه على أي نظام عصبي آخر غير الخاص بذبابة الفاكهة، إن الإمكانيات والأدوات التي نمتلكها في عصرنا الحالي تجعل من تركيبة عقل ذبابة الفاكهة مادة مثالية للتجريب، وتساعدنا على تشريح كيفية عمل المخ. وتنبع أهمية ذبابة الفاكهة في تشابه منطقة “SEZ” بجذع المخ الخاص بالفقاريات. وعلى إثر كل ذلك، فإن نتائجنا تسهم بتداعيات مهمة في علم الأعصاب، ولربما تُلهم دراسات بحثية مستقبلية قد تهدف لربط رسم تخطيطي شامل لنشاط المخ مع تحليلات وفحوصات وظيفية. فياله من عصر مثير لعلماء الأعصاب!”

المصدر: https://medicalxpress.com

ترجمة: عبدالله يحيى عبدالمؤمن

مراجعة وتدقيق: زينب محمد


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!