بكتيريا تُحلّق عاليًا .. تُساهم في تكوّن السُّحب!

بكتيريا تُحلّق عاليًا .. تُساهم في تكوّن السُّحب!

30 يونيو , 2022

دقق بواسطة:

زينب محمد

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ سورة النور

السّحَاب..

شوق العربيّ للزائر الذي يتبعه.. مظنّة هطول المطر 

يستبشر برؤيته في صحرائِه، ويتعلّق به ويضرب به الأمثال شِعرًا ونثرًا

فيكون بشارة الأمل والخير رغم أنّه الحجاب الحاجز بينه وبين السَّماء! 

لَيسَ الحِجابُ بِمُقصٍ عَنكَ لي أَمَلاً

إِنَّ السَماءَ تُرَجّى حينَ تَحتَجِبُ

صَحِب نبيّنا -ﷺ-ذاكَ المظللُ بالغَمامَة، فيكتب شوقي بيتًا من الشِّعر قال فيه:

وظلّلته فصارت تستظل به .. غمامة جذبتها خيرة الدّيم

السّحَاب..

الزائر الغِبّ في سماء العربيّ، تجده يزداد له حُبًا .. ولهفةً وشوقًا

رغم قلّة التّردادْ.. التي يُقال أنّها تُثبّت الحُبّ بالأوتادْ!

وإذا تراكم هذا السّحاب بعضه فوق بعض وثَقُل ..هطل المطر، فيرتوي العربيّ بعد شدّة ظمأ، وتزدهر الأرض الميّتة وتطرب معه، وتحتفل المواشي والدوابّ.

فما الذي في يَد الإنسان العاجز في هذا النظام الدقيق العظيم حتى يساعد- بأمر الله ﷻ- في تكوين السّحب ولَمِّ شَعَثها المتفرّق؟.. هذا ما يُسلّط الضوء عليه في هذا المقال.

في ربيع عام 1978م، هُدّدت حقول القمح في شمال مونتانا في الولايات المتحدة، وقد كان المحصول مليئًا بالآفات، حاول ديفيد ساندز، أخصائي علم أمراض النبات، استثارة خياله العلميّ، فاستأجر طائرة صغيرة وحلّق في السّماء وحين وصل إلى الغيوم خرجت الرّمال من النافذة، وفي يدها طبقٍ بتري. 

لقد اصطاد المشتبه به! .. إنّها البكتيريا

اعتقد أيضًا أنّ اكتشافه سيحلّ اللّغز الطويل حول سبب هطول الأمطار، لذا حاول عرض فكرته بأنّ الميكروبات التي تعيش في الغيوم تستدعي الرذاذ والمطر، لكنهّا لم تتوافق مع اهتمام علماء الغلاف الجويّ آنذاك حيث كانوا يركّزون على جزيئات الغبار والسخام.

كيف يتكون المطر؟

يقول شنيل: “لكي تمطر، يجب أن تشكّل الغيوم بلورة جليدية أولاً ، حتى في الصحراء الكبرى”.

تتجمع ملايين من قطرات الماء الصغيرة في السّحب وتصبح ثقيلة بما يكفي لتسقط على هيئة مطر إذا كان الجوّ دافئًا أو ثلج إذا كان الجوّ باردًا، ولكي يحدث ذلك في المناطق المعتدلة تحتاج إلى عملية تجميد، حيث تصطدم بلورة جليدية بقطرات باردة لكنّها لم تتجمد بعد. 

لكنّ قمم السّحب لا تكون في درجات حرارة مناسبة للتجميد. فكيف يتكون المطر؟

يمكن أن يتحوّل الماء في السّحب إلى جليدٍ صلب عند درجات حرارة أعلى بمساعدة عامل مساعد، حيث كتب فيريس جبر  في مجلة (New York Times Magazine): “وأحيانًا يمكن أن تكون الميكروبات هي العامل المساعد”.

وقد وُجد أنّ الميكروبات، من بكتيريا وفطريات وطحالب، المحمولة في الهواء يمكنها القيام بهذه المَهمة،  فما المَزية فيها؟

الميكروبات يمكنها تحفيز تكوّن الجليد حتى في درجات حرارة قريبة من الصفر درجة مئوية.

قال موريس، في ورقة بحثية عام 2015 عن البكتيريا المحمولة جوًا:  “إنّها نوع من الركلة لتبدأ عملية التجميد عند درجات حرارة أكثر دفئًا مما قد يحدث عادةً”.

البكتيريا التي تحلق مع السّحب

عجيبة هي البكتيريا، فرغم صعوبة الظروف في بعض الأماكن إلا أنها تنمو وتتكاثر! بل وتكون العلاقة بينها وبين بيئتها علاقة ودّ واستحسان وتفضيل رغم قساوة الظروف الظاهرة؛ فتجد أن بعض البكتيريا تفضل العيش في الجوّ البارد وتساهم في تكوين الجليد!

قام فريق بقيادة برنت كريستنر، عالم الأحياء الدقيقة في جامعة ولاية لويزيانا في باتون روج، بتصنيف هذه الميكروبات المسببة للأمطار من خلال النظر إلى الثلج المتساقط حديثًا، والذي جُمِع من مختلف مواقع خطوط العرض المتوسطة والعالية في أمريكا الشمالية وأوروبا والقارة القطبية الجنوبية، وقاموا بتصفية عينات الثلج لإزالة الجزيئات، ووضعوا تلك الجُسيمات في حاويات من الماء النقيّ، وخفضوا درجة الحرارة ببطء، وراقبوا عن كثب لمعرفة متى يتجمد الماء؟

لاحظوا أنّه كلما ارتفعت درجة حرارة التجمّد لأي عينة، زاد عدد النوى وزادت احتمالية أن تكون ذات طبيعة بيولوجية، ولفصل هذين التأثيرين؛ عالج الفريق عينات المياه بالحرارة أو المواد الكيميائية لقتل أيّ بكتيريا بداخلها، وفُحِصت درجات الحرارة المتجمدة مرة أخرى للعينات، وبهذه الطريقة وجدوا ما بين 4 و 120 نواة جليدية لكل لترٍ من الثلج الذائب، ومن المحتمل أن تكون حوالي 69-100٪ من هذه الجسيمات ذات طبيعة بيولوجية.

فوجئ الباحثون بوجود بكتيريا “المطر” في جميع العينات، لتؤكد النتائج فكرة أنّ الجسيمات البيولوجية لها دور هام في توليد تساقط الثلوج والأمطار، خاصةً في درجات حرارة السّحب الدافئة نسبيًا، كما أضافت دليلاً على فكرة أنّ الميكروبات يمكنها السّفر بأمان لمسافات طويلة في السّحب لتتواجد في كلّ مكان حتى في الغلاف الجوي، حيث إنّه في ظروف الرّياح المناسبة، تكتسح التيارات الهوائية البكتيريا، وتجرفها على ارتفاعٍ يصل إلى طبقة الغلاف الجوي الطبقي- الستراتوسفير- وهي إحدى طبقات الجوّ العُليا. 

يلاحظ بعض العلماء أن قدرة البكتيريا على التجميد تعني أنها قد تخرج من السّحب وتعود إلى الأرض بسرعة أكبر، وهذا أمرٌ في صالح الميكروبات.

يقول تيم لينتون، عالم نظام الأرض بجامعة إيست أنجليا بالمملكة المتحدة: “إنّ البكتيريا قد تستخدم قدرتها على تكوين نواة الجليد للخروج من الغلاف الجوي”.

حددت دراسة أجريت عام 2012م ونُشِرت في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences أكثر من 300 عائلة مختلفة من البكتيريا التي تطفو وسط السّحب، إلا أنّه ليست كلّ السلالات داخل هذه الأنواع نشطة في تكوين الجليد، فقدرة البكتيريا لتكوين الجليد تقتصر بشكل فريد على بكتيريا Pseudomonas syringae وعدد قليل من الأنواع البكتيرية الأخرى، التي يعيش الكثير منها في الغلاف الجوي. 

تعيش معظم البكتيريا المسببة للأمطار على أنها مسببات للأمراض، وذلك لقدرتها على تعزيز التجمد في درجات حرارة دافئة نسبيًا فتكسر جدران خلايا النباتات التي تتغذى عليها؛ مسببة أضرار الصقيع على النباتات وهي ذاتها البكتيريا التي تساعد السّحب لإنتاج الثلج والمطر.

قصة اكتشاف نواة الجليد البكتيري

إن قصة اكتشاف نواة الجليد البكتيري كما رواها  Upper and Vali غنية بالمعلومات في تصوير عملية البحث العلمي للعثور على ما هو غير متوقع، والتشكيك في قبول ما هو غير متوقع.

عُثِر على بكتيريا نواة الجليد لأول مرة مرتبطة بأوراق النبات، وهذا هو المكان الذي بحث فيه الباحثون ابتداءً، إلا أنّه في العقود الماضية عُثر على بكتيريا Pseudomonas syringae في الغلاف الجوي، وكذلك في الثلج (الحقيقي) من جميع أنحاء العالم، من الولايات المتحدة إلى أوروبا وحتى القارة القطبية الجنوبية، ويعتقد أنّ قوتها في صنع الجليد يجعلها قادرة على تكوين السّحب وتسبب المطر، وبسبب هذا الدور المهم المحتمل في أحداث الغلاف الجوي، تمت دراسة Pseudomonas syringae على نطاق واسع في السنوات الماضية؛ لكن حتى الآن، لم يكن بوسع العلماء سوى تخمين كيف جعلت البكتيريا الماء يتجمد. 

وفرة البكتيريا النشطة في السحب

في تقرير لعام 2012م في مجلة Atmospheric Chemistry and Physics، طوّر الباحثون محاكاة لنشاط تنوّي الجليد لـبكتيريا Pseudomonas syringae داخل العواصف الرعدية، ووجدوا أنّ كثرة حدوث البرق ينتج عندما تكون نوى الجليد البكتيرية موجودة أكثر مما كانت عليه عند عدم وجودها.

ووفقًا لما أوضحه موريس، فإنّ وفرة البكتيريا النشطة في السّحب قد تؤثر أيضًا على إنتاج وتواتر الصواعق، حيث قال: “هذه فكرة مثيرة للاهتمام، ربما لأنّ نويات الجليد البيولوجية، هذه الجسيمات الميكروبية التي يمكن أن تسبب تنوّي الجليد، يمكن أن يكون لها دور في البرق أيضًا”.

كيف تصنع البكتيريا الجليد الخاص بها؟

لقد عرف العلماء منذ فترة طويلة أنّ هذا النوع من البكتيريا والمعروف باسم Pseudomonas syringae ، تعيش على المحاصيل الزراعية والنباتات والأشجار وتستخدم قدراتها في صنع الثلج، لإحداث أضرار الصقيع حتى تتمكن هذه البكتيريا من الوصول إلى العناصر الغذائية للنباتات مسببّة تلف المحاصيل، كما أنّ لها دورٌ مهم في علم الأحياء وعلوم الغلاف الجوي؛ لأنها تكوّن بلورات من الجليد حول نفسها عند درجات حرارة أعلى من درجة التجمد، و تحمي البروتينات المضادة للتجمد في غشاء الخلية البكتيريا من التلف أثناء حدوث ذلك.

باستخدام أدوات التصوير التفصيلية، نظر الباحثون في البروتينات المحددة في غشاء الخلية لفهم كيفية تكوينها لشبكة يمكن أن يتشكل عليها الجليد، وقاموا بنشر دراسة مع النتائج التي توصلوا إليها في مجلة (Science Advances).

استخدم الباحثون تقنية تسمى التحليل الطيفي لتوليد التردد، والتي تستخدم مجموعة معقدة من أشعة الليزر الموجهة إلى العينة، كشفت التحليلات باستخدام هذه الأداة أن بكتيريا Pseudomonas syringae تستخدم البروتينات في غشاء الخلية، لتغيير موضع جزيئات الماء القريبة بشكل طفيف بحيث تتلاءم بشكل أكثر دقة مع الشبكة، كما هي في الجليد. يمكن للبكتيريا بعد ذلك استخدام الطاقة الاهتزازية لإزالة الحرارة من المنطقة المحيطة بها، ودمج جزيئات الماء في جليد صلب. يذكر الباحثون أنّ هذه البكتيريا تفعل كلّ هذا بكفاءة عالية.

وعلى الرغم من أنّ الدراسة الجديدة التي نُشرت في مجلة (Science Advances)، لا تؤكد ما إذا كانت البكتيريا تتسبب في هطول الأمطار،  إلا أنّها تشير تحديدًا إلى كيفية تحويل الماء إلى جليد.

بروتينات نواة الجليد

صوّر مارك مارتن، عالم الأحياء الدقيقة بجامعة بوجيت ساوند، عملية التجميد في مقطع فيديو؛ فقطرة من Pseudomonas syringae تضاف إلى قارورة ماء مبرّدة تشكّل على الفور شبكة بلورية من الجليد.

تنتج بكتيريا Pseudomonas syringae بروتينات تحفز إنتاج بلورات الجليد في عملية تسمى تنوّي الجليد، ووفقًا للباحثين من معهد ماكس بلانك، تتكون بروتينات نواة الجليد في Pseudomonas syringae من متواليات أحماض أمينية محددة ترتب جزيئات الماء لتكوين الجليد، تقوم البروتينات أيضًا بإزالة الطاقة الحرارية من الماء، مما يساعد على طول عملية التجميد.

استخدم فريق دوليّ مكون من باحثين المنتج التجاري المعروف باسم “Snowmax”، وهو مسحوق يستخدم لصنع ثلج صناعي في منتجعات التزلج حول العالم، يحتوي هذا المنتج على بكتيريا Pseudomonas syringae الميّتة، و على الرغم من أنّ هذه البكتيريا ليست حيّة، إلا أنّها لا تزال تمتلك بروتين صنع الجليد المرتبط بجدران خلاياها الخارجية، لذا فهي لا تزال تُشكّل الجليد. 

وجد الباحثون أنه عندما تتفاعل Pseudomonas syringae مع الماء، يغيّر البروتين الجزيئات حوله، ويرتبهم في قالب لتشكيل بلورات الجليد، بالإضافة إلى ذلك، تعمل البكتيريا عمل الثلاجة عن طريق إزالة الحرارة من الماء. 

ومن الملاحظ أنّ المياه النقيّة لا تتجمد عند 32 درجة فهرنهايت (0 درجة مئوية) حيث يبقى سائلاً حتى – 40 درجة فهرنهايت (- 40 درجة مئوية)، وللتجميد في درجات حرارة أعلى يحتاج الماء إلى بقعة من الغبار أو السخام أو ملح البحر .. شيء يعمل كركيزة يمكن لجزيئات الماء أن تلتصق به.

ويعتقد معظم العلماء أنّ Pseudomonas syringae تجتاحها الرّياح من الأرض إلى السماء، وفي الغلاف الجوي تخفض هذه البكتيريا درجة حرارة التجمد إلى حوالي 25 إلى 18 درجة فهرنهايت (- 4 إلى – 8 درجات مئوية) وتشكّل بلورات ثلجية؛ يؤدي هذا إلى تكوين السّحب، والتي هي في الأساس تكتلات من قطرات الماء وبلورات الجليد.

التوازن الدقيق

نظرًا لأنّ المكونات البيولوجية تلعب دورًا كبيرًا في تشكّل المطر، فقد تؤثر التغييرات فيها على هطول الأمطار والمناخ في العديد من الأماكن على الأرض.

هناك تلميحات إلى أنّ بعض أسوأ حالات الجفاف في التاريخ الحديث حدثت من قبل البشر، ممّا أدى إلى تعطيل التوازن الدقيق بين البكتيريا والنباتات، فالبشر لهم تأثير واضح على هذه العمليات التنظيمية فمثلاً: التغييرات في استخدام الأراضي والزراعة، مثل التوسع في الزراعة الأحادية، تغيّر تكوين الميكروبات في الغلاف الجوي.  

أخيرًا .. 

يبدو أنّ هذه البكتيريا المتواجدة في السّحب قادرة على التحكّم في الطقس لمصلحتها، مما يؤدي إلى هطول الأمطار.. بل والأمطار الغزيرة!

فهل لنا أن نفترض بأنّ هذه البكتيريا يمكن توظيفها في عملية الاستمطار؛ لتكون بذلك عملية بيولوجية دون الحاجة إلى استخدام مواد كيميائية؟

وهل يمكن استخدامها للتحكّم في مكان سقوط المطر؟

بقلم: د. غادة آل الشيخ مبارك

مراجعة وتدقيق: زينب محمد

المراجع المستخدمة:

  1. Hirano, S. S., & Upper, C. D. (2000). Bacteria in the leaf ecosystem with emphasis on Pseudomonas syringae—a pathogen, ice nucleus, and epiphyte. Microbiology and Molecular Biology Reviews, 64(3), 624. https://doi.org/10.1128/MMBR.64.3.624-653.2000
  2. Schiermeier, Q. (2008). ‘rain-making’ bacteria found around the world. Nature (London), https://doi.org/10.1038/news.2008.632
  3. https://www.sciencefriday.com
  4. https://www.newscientist.com
  5. https://www.popsci.com
  6. https://www.theverge.com


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!