لمَ لا تزال بعض الذكريات المؤلمة تؤرق بالنا؟

لمَ لا تزال بعض الذكريات المؤلمة تؤرق بالنا؟

10 مايو , 2023

ترجم بواسطة:

في جمعة

دقق بواسطة:

غادة اليوسف

بعض الذكريات القديمة لا تُنسى أبدًا

النقاط الرئيسة

  • يمكن للذكريات حل المسائل المقلقة.
  • ندور بين الأفكار الواعية وغير الواعية لتكوين الذكريات.
  • يمكن للشعور المفرط بالذنب جراء بعض التصرفات أن يُشفى بتبرير الذكريات.

بعد تسليم مقالي الأخير على موقع Psychology Today بعنوان “لا يمكنك دائمًا السيطرة على أفكارك”، جَالَ بخاطري موضوع الذكريات، ولا سيما تلك التي تتبادر إلى عقلنا بين تارة وأخرى، ما قيل عن الأفكار أنها الأثر المتبقي من الماضي وما أقدر على قوله عن الذكريات المتكررة، وإحدى ذكرياتي كانت عندما شهدت عيناي رجلين صُعقا بالكهرباء.

كنت أبلغ من العمر ١١ عامًا، وأعيش في حي ذا برونكس، أتذكر أنه كان يومًا ماطرًا خفيفًا، تلته ظهيرة يومٍ تملؤه الغيوم البيضاء المتسارعة، أرسلتني والدتي لشراء الحليب من البقالة عند الناصية، ثم سرت منغمسًا بالتفكير لا ألقي للمطر بالًا، إذ أرى رجلًا من بعيد، يبذل المساعَي المحمومة في سبيل تخليص سيارته من أسلاك الكهرباء المعطلة، ذهبت واستدعيت شرطيًا كان يُنظم حركة المرور عند مفترق طرق يعج بالحركة؛ على أمل أنه يعرف ما عليه فعله.

وبحلول الوقت الذي وصل فيه الشرطي، نشبت الأسلاك بالرجل وأزرقّ وجهه كزرقة لباس الشرطي، سعى الشرطي لتحرير الرجل، إلا أن التيار سرى عبر الجسدين، متجاوزًا قدرة الإشارات العصبية التي كانت يجب أن تُنذر أصابعهم، لكنها أبت أن تنفك وتطلق سراحهما، أنذرني حدسي من الكهرباء وأخبرني “إياك أن تلمسهم” رُغم علمي بأن عيناي ستشهد مصرعهما.

لسنين عديدة شعرت بأنني المسؤول عن وفاة الشرطي، فحينما عدت إلى المنزل، لم أنبس ببنت شفه بما قد شهدته، خلال الأيام القليلة المقبلة كان الحي يضج بالبلاغات الهاتفية عن هذه الحادثة، أبقيت دوري في هذه الحادثة الشنيعة طي الكتمان لأكثر من ثلاثين سنة، تارةً أكبت أية ذكرى وتارة يساورني الفزع، وبمضي الوقت مالت تلك الذكرى المتكررة عن الشعور بالذنب المبالغ به إلى خلق شعور صحي خالٍ من اللوم.

وبِلا شك ثمة ذكريات أخرى، بعضها يشق علينا مُعالجتها، وبعضها لا نبالي بها، وبعضها ينشرح لها الصدر، تساءلت عن مصدرها، ولِمَ تُداهمنا وما الذي ينتجها، كانت الأسئلة الرئيسية بالنسبة لي: ما هي الذكريات؟ وكيف تنشأ؟ أنى لها أن تصبح أبدية؟ إنها تساؤلات فلسفية عصيبة ومستعصية تحيط بأعمق الدراسات المتعلقة بالعقل والتي كانت محل نقاش منذ قرون.

يكمن الإدراك المبدئي والأساسي بفكرة تذكر الأحداث وليس استعادة الذِكرى نفسها، إنما هو هيكل مركب من مصفوفة واسعة من الخلايا العصبية تنقل الإشارات الكهروكيميائية عبر الزوائد الشجيرية التي تخلق مع مرور الزمن آلاف الوصلات مع الخلايا العصبية، ترتبط مسارات لا حد لها ببعضها البعض حتى تكوَّن نمط تسلسلي لتبادل الإشارات وتخزن ذِكرى مُتميزة، كما لو أن الذاكرة هي هيكل المسار لا تصوّر مشفّر لأمور خطرت على البال مرة أو سُمعت أو لوحظت.

التخلص من الذكريات العابرة

تُهيأ وتُخزن كل الأحاسيس والأمور التي تحدث داخل عقلنا كمصفوفة مترابطة. يكون عدد الأحداث التي تعبُر وتصل إلى الخلايا المصنفة المؤقتة في الحصين هائلًا خلال يوم واحد، وتكون غالبية اللقاءات والمجريات غير حافلة بالأحداث، أحداثًا مثل تفريش الأسنان والذهاب إلى العمل، وتذكر قصة مُحزنة، وحضور مناسبة ولادة طفل تختلف تمامًا عن تذكر اسم ممثل في فيلمٍ ما أو ما الذي تناوله المرء على الإفطار، يتمتع الدماغ بمساحة تخزينية أكثر من كافية لعدد لا نهائي من الذكريات، إلا أن الذكريات الفائضة تسبب اختلال في عملية استرجاع الذكريات، وبالتالي يتوجب على الدماغ التخلص من تلك الذكريات التي ليس لها دور في صحة الإنسان، لكن السؤال الأهم كيف؟

علماء الأعصاب يجهلون الأمر فأنَّى لي أن أعرف؟ مع أن مقدار معلوماتي عن استرجاع الذكريات ضئيل، إلا أنني أستطيع القول بأن الحلقات التي تحدثت عنها في مقالي السابق على موقع Psychology Today تلعب دورًا مهمًا، تعتمد عملية استرجاع الذكريات على حلقات العقل الواعي والعقل الباطن المسؤولة عن تصفية الذاكرة العرضية الأبرز، التي لا تتلاشى دون فهرستها حتى تصل إلى الفتحات الخلوية في الحصين، بعض الأحداث راسخة بصورة عرضية بما يكفي لتكون لها عاطفة متينة، ففقدان وظيفتك أمر مختلف عن عدم حصولك على الوظيفة التي قدمت بالطلب عليها.

رُغم ذلك كلاهما ليسا بالأخبار السارة وستشغل بالك بهم إلى أن تضعهم الذاكرة في موضع طيات مواقع الذهن الواعي و غيرالواعي والتي تتضمن قشرة الدماغ ومناطق الدماغ الأخرى التي تستحدث أحلامًا مرتبطة بأحداث نهارية عشوائية مخزنة في العقل، كل ذلك يدور في حلقة من الوعي النهاري البارز وغير الوعي إلى أن يتسنى استعادتها بقليل من الجهد، بالإضافة إلى التموجات الدائرية الحادة التي تحدث حين يكون الدماغ في حالة رقاد حيث تنتقل الإشارات الكهربائية عبر دوائر الذاكرة العرضية وتعززها لتكون ذاكرة طويلة الأمد.

تُستعاد الذكريات بِفعل تلك الحلقة ولكن مع تبايناتٍ في الدقة، ومن الواضح أن التذكر غير الواعي الذي ليس إلا مجموعة غامضة من الآثار، يضيف تفسيرات غامضة وعقلانية محكمة يقبلها العقل البشري دون تقصي الحقائق غير الواردة.

إذن، لمَ لم تنفك مشاعر المسؤولية اتجاه وفاة الشرطي عن ملازمتي بعد عقود عديدة على وقوع الحادثة؟ من المؤكد أن الذاكرة نُظمت وانحرفت وتضاءلت، رُغم أن بوسعي تذكر كل خطوة خطتها قدماي في ذلك اليوم الممطر، ولديّ ذكريات أخرى أثرت مُباشرةً على صحتي وعافيتي، بالكاد تلاشت تلك الذكريات في الهواء، وخلفت الأخرى بداخلي تصورات تفسيرية وهمية وزائفة، الاختلاف من وجهة نظري أن مصرع الشرطي حدث حينما كنت مُرهف العواطف ورقيق الفؤاد، كوني صغيرًا في السن سأظن بأنني أنا من تسبب بموت شخصٍ ما، كان موقفًا يصعب تحمله، وبالتالي ضعفت الروابط العصبية بما يكفي لإحداث خلط بين التوهم والابتكار.

يُنظر إلى تصوري المتكرر بسبب الشرطي على أنه مشاعر عالقة في حلقة العقل الواعي وغير الواعي في حين تتلاعب اللوزة الدماغية بإدراكها الحسي حتى تنسق الحادثة مع أهميتها، ويبدو لي أنها تعمل باستمرار على احتواء المشاعر في الإدراك لمزيد من القرارات البديلة الواردة، وأفترض أن ذلك منطق سليم.

المصدر: https://www.psychologytoday.com

ترجمة: فيّ جمعة

مراجعة وتدقيق: غادة اليوسف


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!