التقنية الحيوية في مواجهة تغير المناخ

التقنية الحيوية في مواجهة تغير المناخ

29 يونيو , 2022

ترجم بواسطة:

فاتن ضاوي المحنا

دقق بواسطة:

وليد حافظ

أدت أزمة التغير المناخي العالمي _ والتي تؤثر في نمط الطقس والحرارة على مدار فترات طويلة_ إلى ارتفاع متوسط درجة الحرارة قرب سطح الأرض.  وتجاوز تأثير ارتفاع حرارة الأرض وما يعرف بالاحتباس الحراري جوانب الحياة وأسلوب المعيشة، ليصل إلى الأراضي الزراعية ويهدد إنتاج الغذاء. ونجم عن أزمة المناخ طقس مضطرب في أنحاء العالم، ففي بعض المناطق أثارت الأمطار الغزيرة في الصيف موجة أسراب الجراد ودمرت المحاصيل عبر مساحات شاسعة من شرق إفريقيا وجنوب غرب آسيا، مما عطل الإمدادات الغذائية. وفي أنحاء أخرى، أرهقت الفيضانات الزراعة الصينية، نتيجة زيادة هطول الأمطار. بينما ازداد الجفاف والحرارة في أجزاء أخرى، ونتجت عن ذلك الحرائق التي أثرت على المحاصيل والماشية غرب الولايات المتحدة. وفي فرنسا، تضرر الإنتاج الزراعي بسبب موجة الحرارة والجفاف، مما دفع المزارعين إلى طلب المساعدة من الحكومة.  وفي كل الأحوال، فإن تغير المناخ هو القاسم المشترك وما يحمله من آثار مدمرة على توفر الغذاء ورفاه العيش وصحة الإنسان. ومع تعرض العالم لتأثير متزايد من مناخ مضطرب _ أثّر سلبًا على الإنتاج الزراعي والحيوان _ يخشى الخبراء من وصول العديد من أنظمتنا الغذائية إلى نقطة الانهيار ويتعرض إنتاج الغذاء للخطر.

ووفقًا لبعض التقديرات، في غياب التكيف الفعال مع التغير المناخي، يمكن أن تنخفض الغلاّت العالمية بسبب الحرارة الشديدة والطقس القاسي والجفاف بنسبة تصل إلى 30 ٪ بحلول عام 2050. ومن المرجح أن تعاني البلدان التي تتصارع بالفعل مع النزاعات، والتلوث، وإزالة الغابات، وغيرها من التحديات من وطأة هذه الآثار بشكل أكبر. وسيتضرر أكثر من ملياري شخص لا يحصلون بالفعل على الغذاء الكافي، بمن فيهم المزارعون أصحاب الحيازات الصغيرة وغيرهم من الأشخاص الذين يعيشون في فقر. وسيؤدي تغير المناخ إلى زيادة أسعار الغذاء، وقلة الغذاء، وتفاقم عدم الاستقرار والصراع بين الشعوب بسبب التنافس على المياه والأراضي الخصبة.

والسؤال المحوري: كيف يمكننا إطعام العالم دون زيادة الانبعاثات، أو تأجيج فقدان التنوع البيولوجي وإزالة الغابات، أو تعميق عدم المساواة والفقر بين الشعوب؟

وحيث أنه لابد من التوازن في إنتاج المزيد من الغذاء لعدد متزايد من السكان، وتخزين المزيد من الكربون لمواجهة تغير المناخ والحفاظ على الأنواع المتنوعة من الكائنات الحية على كوكب الأرض. يدفعنا ذلك إلى الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها القيام بالأمور الثلاثة وهي: استخدام الأرض بصورة أكثر كفاءة. والكفاءة في استخدام الأرض تعني المزيد من الغذاء، والمزيد من الكربون، والمزيد من التنوع البيولوجي في المساحة التي تعادل هكتار. وأحد طرق رفع كفاءة استخدام الأرض هي إنتاج محاصيل تتحمل الجفاف والحرارة العالية وتنتج كمية أعلى من الثمار وكل ذلك ممكن عبر أدوات التقنية الحيوية مثل التعديل الجيني عبر كريسبر كاس ٩. 

كفاءة استخدام الأرض عبر الزراعة

في قضية الاحتباس الحراري وتغير المناخ يمكننا تصنيف الزراعة على أنها الحل والمشكلة.  فالزراعة مساهم رئيس وحل محتمل في تغير المناخ.  ففي تقريرٍ حديث، وجد الفريق الحكومي الدولي المعنيّ بتغير المناخ أن أكثر من ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تأتي من إنتاج وتوزيع واستهلاك الغذاء. وعندما يتعلق الأمر بإنتاج الغذاء، فإن غالبية الانبعاثات الزراعية تتعلق بتربية المواشي، تليها زراعة الأرز وإنتاج الأسمدة الاصطناعية. ومع تحويل الغابات والأراضي العشبية للزراعة، يفقد العالم أنظمة بيئية مهمة للغاية، تساهم في إزالة الغازات الدفيئة من الغلاف الجوي.  لذا فإن الممارسات الزراعية المستدامة توفر فرصًا كبيرة للتخفيف من آثار تغير المناخ، كما يساعد بعضها المزارعين على بناء المرونة في مواجهة الصدمات البيئية والاقتصادية المستقبلية.

فمن خلال الحراجة الزراعية (وهي دمج زراعة الأشجار والحفاظ عليها في أراضي المحاصيل أو المراعي) يمكن أن تُخفَّض الانبعاثات عن طريق إنشاء “أحواض كربونية” إضافية في المزارع. وتمارس هذه الممارسة على نطاق واسع في جميع أنحاء أمريكا الوسطى واللاتينية منذ عصور ما قبل كولومبوس، كما تحمي هذه الممارسة المزارع من تآكل التربة وتوفر موطنًا لمجموعة متنوعة من الكائنات الحية.

كما أن تحسين إدارة التربة في المزارع، بما في ذلك الممارسات الجيدة، مثل الحرث المنخفض، يمكن أن يحافظ على الكربون في التربة مع زيادة الإنتاجية. ويمكن أن تساعد غلّة الهكتار الأعلى، بدورها، في تخفيف الضغط من أجل المزيد من إزالة الغابات، وبالتالي تجنب الانبعاثات – ناهيك عن فقدان التنوع البيولوجي والنظام البيئي – من تغيّر استخدام الأراضي. ويمكن أن تؤدي ممارسات الزراعة المستدامة التي تحافظ على صحة التربة أيضًا إلى زيادة دخل المزارعين، مما يوفر حاجزًا مهمًا ضد الصدمات المناخية لسكان الريف.

وتعمل استعادة الأراضي الزراعية المتدهورة على الحد من تأثير الانبعاثات وتقلل من خطر تآكل التربة والانهيارات الأرضية وتساهم في توازن النظم البيئية الحيوية. لذا، فإن العمل على تحسين خصوبة التربة وزيادة الإنتاجية مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري يمكن أن يقلّل بشكل كبير من مساهمة الزراعة في تغيّر المناخ مع المساعدة في تحقيق مجتمعات أكثر استدامة ومرونة.

دور التقنية الحيوية في تحدي المناخ

تعرف التقنية الحيوية بالتعديلات التي تتم على المستوى الخلوي ودون الخلوي وتساهم في تعديل صفات الكائن الحي.  وتوفر التقنية الحيوية سبلاً للتعديل الجيني عبر أدوات تعمل على المستوى الجزيئي الخلوي مثل كريسبر كاس ٩ (Cas 9/ CRISPR)، حيث يمكن من خلالها تعديل الجينات المسؤولة عن صفات  الكائنات الحية. ويساهم التعديل الجيني في التخفيف من تأثير تغيّر المناخ عبر تعزيز التكيف مع التغيرات البيئية ومقاومة الأمراض.  كما أنه باستخدام التقنية الحيوية، يمكن لمربي النباتات والحيوانات تطوير نباتات وحيوانات بسرعة أكبر تتكيف مع الظروف البيئية المتغيرة، مثل الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة، والأمراض الجديدة، وغير ذلك من عوامل الإجهاد.  ومن أمثلة ذلك، محاصيل الغطاء النباتي التي تُستخدم في صنع الوقود الحيوي المستدام، فعبر حقول الذرة يتم معالجة تخمير المنتج لتحويله إلى الإيثانول الحيوي والذي يُستخدم في الوقود. كما أن التعديل الأيضي عبر الجينات المسؤولة عن النضج في الفواكه والخضروات المعدلة يُطيل فترة النضج مما يقلّل من معدل فسادها، وبالتالي يقلّل إهدار الطعام والذي يساهم في الانبعاث الغازي. كما يعمل الباحثون على تطوير طرقٍ لسحب ثاني أكسيد الكربون الزائد من الغلاف الجوي بالأشجار وحتى بواسطة الميكروبات، لتخفيف الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي.

ولأجل توفير الماء العذب للشرب والاستهلاك البشري، كان الحل بأن يتم استخدام مياه بها نسبة من الملوحة في الزراعة، وأصبح ذلك ممكنًا عبر استخدام أحد أدوات التقنية الحيوية في تحرير الجينات وهو  كريسبر كاس ٩ (CRISPR / Cas 9) حيث تم تعديل الجين المرتبط بتحمل الملوحة في الأرز (OsRR 22). مما أدى إلى تحسين نمو نبات الأرز في البيئات عالية الملوحة مع عدم وجود تأثير سلبي على كثافة محصول الحبوب، أو الكتلة الحيوية النباتية، أو جودة الحبوب.

وفي الجانب المقابل، تُجري أبحاث مستمرة لمواجهة آثار تغير المناخ والتي أدت إلى زيادة أمراض المحاصيل الزراعية. حيث حقق فريق بحثي نجاحًا في تعديل نبات الكاكاو لمقاومة فطر ممرض يُدعى ( Phytopthora Tropis)،  عبر أداة التحرير الجيني كريسبر كاس ٩ (CRISPR / Cas 9) والتي تستهدف جين ( TcNPR 3)، وهو مثبط للاستجابة للمرض.

وبالمثل عبر أداة التحرير الجيني كريسبر كاس ٩ (CRISPR / Cas 9)، أُنتج نبات القطن المقاوم لمرض سرطان القطن، وهو مرض حاد يسببه فطر ( Verticillium dahlia) عبر استهداف جينات تلعب دورًا مهمًا في الاستجابة للمرض. وبالمثل تم تعديل نبات الجريب فروت، ليقاوم مرض تقرح الحمضيات. كما أُنتجت سلالات مقاومة للفيروسات النباتية عبر التعديل الجيني في كلّ من نبات الموز T والكسافا، والخيار. كما ساهم التحرير الجيني باستخدام كريسبر كاس ٩ عبر تعديل جين (Coilin) في البطاطس إلى زيادة مقاومة البطاطس لفيروس البطاطس (Y) وزيادة تحمل الملح والجفاف.

ولزيادة إنتاج الغلّة تم تهجين مجموعة متنوعة من الطماطم البرية باستخدام كريسبر / كاس 9 ، وتعديل ستة جينات مرتبطة بزيادة حجم الثمرة بمقدار 3 أضعاف، وزيادة عدد الفواكه في النبات الواحد إلى 10 أضعاف.

دور التقنية الحيوية في تعديل صفات الماشية 

ومن نماذج استخدام التقنية الحيوية في مواجهة تغيّر المناخ، إنتاج الماشية التي تحمل جين سليك ( SLICK) والتي تتميز بشعر أملس قصير يساعد على إبقائها باردة في درجات الحرارة شبه الاستوائية. كما استخدم مربو الحيوانات التقنية الحيوية، لتطوير ماشية تتحمل الحرارة وتكون أكثر قدرة على تنظيم درجة حرارة الجسم أثناء الظروف الحارة.

كما اُستخدم التعديل الجيني للثروة الحيوانية لتغيير نسب الجنس في السلالة.  حيث يمكن زيادة عدد الإناث في مزارع تربية الدواجن لإنتاج البيض على سبيل المثال، مما يحسن من الإدارة المزرعية للمساحة المخصصة بتربية الماشية ويزيد الصنف المنتج. ولتحقيق ذلك، اُستخدمت كريسبر كاس ٩ (CRISPR / Cas 9)، لإدخال بروتين فلوري في الكروموسومات الجنسية الذكرية، مما يسهّل تحديد الجنس أثناء مرحلة التطور الجنيني.

كما أن تطبيق التحرير الجيني على الماشية الأفريقية يلبي المتطلبات الزراعية لهذه القارة الفريدة، عبر تحرير السلالات الأفريقية من الأبقار والدجاج، لتحسين قدرتها على تحمل الإجهاد ومقاومة الأمراض. فعلى سبيل المثال، لمكافحة داء المثقبيات الحيواني، تم إثبات دراسة جين APOL1 ) Apolipoprotein L1)، واكتشاف أهميته في مقاومة داء المثقبيات  في الماعز، كما يعمل الباحثون على تسريع معدل تطوير لقاح فيروس حمى الخنازير الأفريقية (ASFV) باستخدام تقنيات كريسبر / كاس ٩، والأحياء التركيبية.

علاوةً على ذلك، يتم استخدام التحرير الجيني لتحرير جينات الفوعة من (Theileria parva)، لزيادة الاستجابة المناعية للماشية عند تلقيحها ضد حمى الساحل الشرقي. كما تم تثبيط الجين (NRAMP1) المرتبط بالمقاومة الطبيعية والمناعة في الأبقار باستخدام (CRISPR / Cas 9)، لزيادة مقاومة مرض السُلّ في الماشية.

  ولتعزيز مناعة الدواجن من عدوى فيروس إنفلونزا الطيور (AIV)، يستخدم الباحثون أدوات تعديل الجينات لتوليد اختلافات في جين (ANP32A)، وهو جين يؤثر على تكاثر الفيروس،  مما يمنح العلماء القدرة على التنبؤ بالتغييرات المستهدفة على جين (ANP32A) الذي يؤثر على تكاثر فيروس إنفلونزا الطيور.

وفي حين أن معظم تطوير منتجات تحرير الجينات في مرحلة إثبات المفهوم والدراسة، إلا أن الأدوات المستخدمة في التقنية الحيوية تُقدم العديد من الفرص لاختصار الوقت الذي يستغرقه تقديم أنواع من المحاصيل الزراعية والحيوانية المُحسّنة إلى السوق. ومن المثير للاهتمام، أن دولًا، مثل كينيا ونيجيريا، قد وضعت أحكامًا مناسبة في إطار السلامة البيولوجية الخاص بها لضمان عدم معاملة هذه المنتجات معدّلة الجينات بشكل مختلف عن المحاصيل التقليدية. وتوفر هذه السياسات الأساس للتحرير المستقبلي مع تطبيق واسع في تعزيز التكيفات المناخية للزراعة.

التقنية الحيوية تساهم في صُنع عالم أكثر استدامة

بالإضافة إلى المساعدة في التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه، يمكن أن تساعد تطبيقات التقنية الحيوية الزراعية في تعزيز استدامة النظم الغذائية. فمن خلال الابتكار والعلم المسندين بالأدلة، يمكن توسيع مجموعة الأدوات للمزارعين، والصيادين، والمنتجين الآخرين لإنتاج المزيد بموارد أقل، سواء مساحة أراضٍ، أقل أو احتياج أقل للمياه، وبالتالي توفير المياه أو مقاومة الجفاف، وكذلك التعامل مع مدخلات أقل من حيث المخصّبات المستعملة في التربة. وحلول مبتكرة وإبداعية لمواكبة الاحتياجات والتحديات المتغيرة مع زيادة الإنتاجية، وبالتالي التخفيف من حدة الفقر، وتحسين الأمن الغذائي والتغذية ورفع مستوى المعيشة.

بقلم: د. فاتن ضاوي المحنا

مراجعة وتدقيق: وليد حافظ

المراجع المستخدمة:

https://www.frontiersin.org

https://www.sciencedirect.com

https://www.ncbi.nlm.nih.gov

https://unfoundation.org

https://www.sciencedirect.com

https://academic.oup.com

https://www.sciencedirect.com


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!