القدرات المنسيّة للحواسيب التناظريّة.

القدرات المنسيّة للحواسيب التناظريّة.

19 يناير , 2020

ترجم بواسطة:

أحمد عبدالمنعم

يتحدث المقال عن تاريخ الحواسيب التناظرية التي كان لها حضور سابقاً قبل تطور الحواسيب الرقمية الحديثة كما يشير المقال إلى احتمال عودتها للساحة مجدداً حيث زاد الاهتمام بها في الأبحاث الأكاديمية مؤخراً.

نفذت الذخيرة وجنود العدو يتقدمون في اتجاههم. الأسر أم القـتل؟ اللحظات القادمة وحدها تحمل الإجابة. المطر ينهمر من السماء على جزيرة جاوه الإندونيسية الاستوائية والخاضعة للسيطرة اليابانية. وبينما يجري الماء كمئات الثعابين المسعورة على جدران الخندق الطيني باحثة عن أقصر طريق لقاعه، تطول الثواني وتتباطأ حركة الماء أمام عيني(فيليبس) منزلقا قطرةً فقطرة، حتى تأتيه إجابة سؤاله في شكل ضربة بقاعدة بندقية. إذن فهو الأسر.

وبالرغم من قسوة السجن لم يمنع ذلك (بل فيليبس) _المهندس النيوزيلاندي الموهوب_ من ابتكار بعض الأدوات من لا شيئ تقريباً، لتهوين حياة الأسر وبث الأمل بين رفاقه، من بينها تركيبه لجهاز راديو سري من مكونات أوّليّة وبعض الأجزاء التي سرقوها من غرفة قائد الحرس. (1)(3)

(صورة-1) آلة فيليبس

Restored Phillips Machine, 1993

نحن الآن في العام 1949 في لندن في كلية الاقتصاد، يتجمع حضور من الأكاديميين وتظهر على ملامحهم انفعالات تتباين بين الدهشة والسخرية وقد وضع أمامهم في صدر القاعة جهاز غريب في حجم خزانة الثياب مكوّن من بضعة صناديق بلاستيكية شفافة تشبه أحواض أسماك الزينة يجري الماء بينها في أنابيب ماراً بصمامات مع بعض الأجزاء المتحركة المرتبطة بأقلام مثبّتة على لوحات رسم بياني ورقية، وعدد محدود من الأسلاك الكهربائية لتشغيل مضخة الماء(2)،ثم وقف (فيليبس) _الذي ترك الهندسة ونيوزيلاندا واتجه لدراسة الاقتصاد في إنجلترا بجوار الجهاز، وبدأ في شرح فكرة جهازه المتضمّن حلقات تغذية راجعة وتفاعلات بين مكوناته لتمثّل عدّة متغيّرات اقـتصادية، والذي كان الغرض الأوّلي منه شرح وتوضيح آليات اقـتصاد الدولة(الاقتصاد الكلّي)(22) للطلبة، ثم وضّح كيف أنه قد فوجئ عند ضبطه للجهاز على إعدادات وضع اقتصادي معين من حيث نسبة الفائدة والضرائب والتوجه الاقتصادي الخارجي(تصدير\استيراد) والإنفاق الحكومي (صحة، تعليم… وغيرها) والخزانة الحكومية والاستثمار، … ثم تركه ليعمل، فقام الجهاز بعمل محاكاة بدقة تصل إلى 98% للمتغيّرات المستقبلية المترتّبة على قيم الإعدادات الأوّلية، ليشكّل بذلك أداة تنبّؤية تساعد القائمين على السياسات الاقتصادية لإبقائها متّزنة.

 ويعمل جهازه على حل مسألة حسابية تتضمن عدّة معادلات تفاضلية مترابطة بشكل متزامن، أي أن الجهاز هو حاسوب يحل عدد من المعادلات لحظياً(17) وله واجهة واضحة تظهر عليها البيانات، في وقت ما كانت أفضل الحواسيب الرقمية الموجودة كبيرة الحجم بحيث تحتل حجرات مستقلّة وتعمل بالصمامات المفرّغة الغالية والهشّة والسريعة العطب _ فعمر الصمام الافتراضي يقدر بالساعات _كما أن برمجتها وقراءة مخرجاتها كانت بواسطة الشرائط الورقية المثقّبة، والتي تحتاج خبراء للتعامل معها، فضلاً عن أنها تحتاج لوقت بين إدخال البيانات ومعالجتها.(16)

(فيديو-1) موجز عن تاريخ آلة فيليبس.

إن كنت مهتم بالرياضيات أو الحوسبة فقد تبهرك فكرة أن آلة تعمل بتدفّق الماء قادرة على حساب معقد لمعادلات تفاضلية متزامنة، وقد تقول بأن كل هذا جميل لكنه قديم. وأن الحوسبة الرقمية الآن قد تخطّت تلك القدرات منذ زمن بعيد. وإننا نستطيع عمل محاكاة لآلة (فيليبس)على حاسوب رقمي متواضع القدرات، لكن هذا غير صحيح من عدة نواحي، أولها أن تلك الحواسيب _كآلة (فيليبس)_ت صنف كحواسيب تناظريّة(تماثليّة)(4)، ولا يزال بعضها يعمل للآن، وإن كنت سافرت من قبل بالطائرة فاعلم أن أحد تلك الحواسيب _تناظري إلكتروني_ موجود ضمن نظم التحكم في الطيران على متن الطائرة، وأما عن افتراض قابلية محاكاة آلة (فيليبس) على حاسوب رقمي فستجد أن الفارق بين الرقمي والتناظري يضع حداً لإمكانية القيام بمحاكاة دقيقة 100% لعملية تناظرية على أي حاسوب رقمي.

(فيديو-2) إجراء حسابات اقتصادية بواسطة آلة فيليبس.

تناظري مقابل رقمي

هل تتذكر دروس الهندسة الإقليدية في المدرسة، حين كنت تقوم بتقسيم خط مستقيم بواسطة الفرجار بدون معرفتك لطول الخط؟

أنت وقتها كنت تقوم بعملية حسابية تناظرية، ولأن من أهم خصائص الحساب التناظري أنه يتم دون الحاجة لوحدات قياس، فبالتالي كنت تستطيع تقسيم أي خط مستقيم _نظرياً_ إلى مالانهاية من الأقسام المتساوية(5)،وهو نفس السبب الذي لا يجعل الحاسوب الرقمي قادر على حساب قيمة (باي π Pi) _ثابت الدائرة_ بشكل كامل لأنه عدد حقيقي(لا كسري متصل) له عدد لانهائي من الأرقام بعد الفاصلة، ولكنه موجود ومحدد القيمة _وبشكل قابل للمعاينة تناظرياً_ في الطبيعة، وحتى الآن تخطّى حساب (باي) بالحواسيب الرقمية الحديثة الـ 10 ترليون رقم بعد الفاصلة، و لايزال حسابها مستمراً.(6)

جدير بالذكر أن ورقة علمية منشورة في العام 1996(7)(8) أفادت بأن نظام طبيعي كالماء في مجرى أي نهر تتفاعل فيه تدفّقات الماء مع التربة على جانبّي المجرى مشكّلة بذلك نظام معقّد محتوياً على حلقات تغذية راجعة ناتجة عن تأثير تدفّق الماء على التربة، وتأثير التربة على تدفّق الماء، ووجد إحصائياً أن طول مجرى النهر (كخط منحني متلوّي) عند قسمته على طول النهر (كخط مستقيم من المنبع للمصب) يساوي (باي)!

وبهذا تعمل الأنهار كحاسوب تناظري هيدروليكي ينتج _عرضياً_ قيمة (باي).

كما أن هناك حاسوب تناظري ميكانيكي كان يستخدم للتحكم في إطلاق القذائف في البحرية الأمريكية(21) يسمح لك بأن تحسب قيمة (باي) تناظرياً، وذلك بعد قيامك بقياس محيط وقطر أي دائرة هندسية بواسطة خيوط، وبهذا تكون قد قمت بنسخ قيمتهما التناظرية، ثم عبر استخدامك لجزء بسيط لآليّة من آليّاته(تقوم بعمليات الضرب تناظرياً) تستطيع أن تحسبها، ولكن من بعد عكس أطراف الآليّة لتقوم بعملية القسمة، وذلك باستخدامك المخرج كمدخل للقيمة المراد قسمتها(محيط الدائرة)، والمدخل الأول ليكون مخرج لعملية القسمة، أما طول القطر فيكون في المدخل الثاني(السفلي) كما هو، ومن بعد استعمالك لطول الخيوط المقاسة سابقاً والحاملة للقيّم التناظرية للدائرة كمدخلات في الآليّة، تقوم الآن بقياس طول المخرج بقطعة خيط أخرى. وها أنت تستطيع أن تمسك (باي) كاملة القيمة _تناظرياً_ بين يديك.

(فيديو-3) الآليّة الحاسبة التناظرية الميكانيكية.

الحاسوب الهجين وتلافي العيوب

أحد العيوب الأساسية للحواسيب بشكل عام كأدوات لمعالجة البيانات هو كونها عرضة للتشويش أو الضجيج، ففي الحاسوب التناظري الإلكتروني يكون عرضة للضجيج الإلكتروني والحراري(9)، أما الحاسوب التناظري الهيدروليكي فيكون عرضة للضجيج المصاحب لاضطراب تدفق المائع _في الغالب يكون الماء_ فتتكوّن به الدوّامات مختلفة الأحجام(10)(وقد يكون ذلك هو السبب في أن آلة فيليبس لها هامش خطأ يقدر بـ 2%)، كذلك التناظري الميكانيكي يكون عرضة للضجيج الميكانيكي نتيجة احتكاك أجزائه(11)، في حين أن الحواسيب الرقمية عرضة للتشويش الكمّي(12)عند معالجتها للإشارات.

وبالتالي جاءت فكرة الحاسوب الهجين (تناظري ورقمي) (13) لتلافي عيب كل نوع والاستفادة من مميّزاتهما معاً، وبذلك أصبح الخيار الأمثل للاستخدام في مجالات تتطلب أداةً ذات جودة ووثوقيّة عالية لمعالجة البيانات كمشروع أبولّو، لكنها كانت غير منتشرة خارج الحقل العلمي الصناعي العسكري، وفي الثمانينيات انخفضت كلفة الحواسيب الرقمية وزادت سرعتها مما دفع الكثير من القطاعات _سابقة الذكر_ للتخلّي عن الحواسيب الهجينة والتناظرية. (13)(14)

ولكن ليست هذه هي النهاية. لأن الحواسيب التناظرية تعود للواجهة من جديد أكاديمياً(23)، وبالرغم من كونها محدودة الاستخدام نسبياً لكنها تأتي في أشكال أكثر غرابة وإثارة للدهشة_ضمن أبحاث التعقيد الحسابي(18)_ كالقيام بحساب حلول لمسائل صعبة بواسطة فقاعات الصابون في مختبر علم الحاسوب والذكاء الصناعي التابع لـ M.I.T(15)

عندما يخذلك حاسوبك البيولوجي

أخيراً وعودة لصديقنا (فيليبس) بعد حياة حافلة بالإنجازات توفّي في العام 1969(1) نتيجة لإصابته بجلطة دماغية تسببت في نقص تدفق الدم للمخ عبر الشرايين والتي تمثل نظام طبيعي يقوم بالحساب المثالي-الأكفأ (19) لوصول تيار الدم لكل أعضاء الجسم بأقصر طول ممكن لمسارات الأوعية الدموية وأقل جهد وطاقة مبذولة لضخ الدم، تطبيقا لمبدأ المسار الأقل مقاومة (20)،تماما كحاسوب تناظري هيدروليكي.

(فيديو-4) عرض لآلة فيليبس في متحف بنك الاحتياط النيوزيلاندي.

المصادر:

1-        https://en.wikipedia.org

2-        https://en.wikipedia.org

3.       https://opinionator.blogs.nytimes.com/

4-        https://en.wikipedia.org

5-        https://www.ibiblio.org

6-        https://en.wikipedia.org

7-        http://science.sciencemag.org

8-  https://www.researchgate.net

9-        https://en.wikipedia.org

10-      https://en.wikipedia.org

11-      https://en.wikipedia.org

12-      https://en.wikipedia.org

13.   https://en.wikipedia.org

14-      https://en.wikipedia.org

15.          https://www.nature.com

16-      http://en.wikipedia.org

17-      Realtime

18-      computational complexity

19-      Optimum

20-      https://en.wikipedia.org

21-      http://en.wikipedia.org

22-      http://en.wikipedia.org

23-      http://arxiv.org

-(صورة 1) من مصدر مصرح بإتاحته عبر باحث جوجل:

مصدر الصورة :https://www.google.com.eg:

الكاتب: أحمد عبدالمنعم

مراجعة: عبداللطيف الرباح

@al3lm


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!