هل تتغير الثقافة بتغير اللغة؟ تشير الاتجاهات الثقافية إلى أن الثقافة تتغير، هل هذا كل ما في الأمر؟ جاشوا كونراد جاكسن

هل تتغير الثقافة بتغير اللغة؟ تشير الاتجاهات الثقافية إلى أن الثقافة تتغير، هل هذا كل ما في الأمر؟ جاشوا كونراد جاكسن

15 أكتوبر , 2019

الملخص:

كل المجتمعات الإنسانية تستخدم اللغة للتواصل وتشير الاتجاهات الثقافية إلى أن الثقافة تتغير تبعاً لتغير اللغة، ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟

كل المجتمعات الإنسانية تستخدم اللغة، وعلى حد علمنا، لطالما استخدموها. ألّف البشر على مرّ التاريخ ما يقارب من مئة وثلاثين مليون كتاب، تحوي على أكثر من نصف تريليون كلمة، ويتحدث الشخص العاديّ ما يقارب من ثمان مئة وستين مليون كلمة في حياته، وسيستخدم الناس المعاصرون اللغة للتواصل مع أكثر من ثمانين ألف شخصٍ خلال حياتهم.

تخيلوا صعوبة معرفة أي شيء عن التاريخ —أو حياتنا السابقة— لو لم يكن هناك لغة، و لم نكن لنعرف عن الإمبراطورية البابلية أو الرومانية أو الصينية أو المايا لولا النصوص المكتوبة، وستزول أحداث مثل الحروب الكبرى والكساد الاقتصادي وحتى علاقتنا الشخصية بلا رسائل وخطابات، وستختفي في النهاية من ذاكرتنا، فليس مستغربًا إذًا أن تحليل النصوص المكتوبة والشفوية هي عماد التاريخ، وعلوم الإنسان والنفس والاجتماع، وأي علم آخر يتعامل مع التطور البشري على مر العصور.

لكن مع نهاية القرن تغير أمر ما في طريقة دراسة الناس للغة، فأصبح من الممكن دراسة النصوص المكتوبة والشفهية من مئات السنين رقميًا، وظهرت برمجيات يمكنها تعقّب عدد مرات ظهور كلمات وعبارات معينة في ملايين الكتب بسرعة وكفاءة، وتجسدت خوارزميات علوم الحاسب التي يمكنها تحديد مجموعة كلمات وعبارات بناء على ميل الناس لاستخدامها معًا، وأصبح من الممكن تفسير استخدام الناس للغة خلال فترات طويلة من الزمن ببضع نقرات، ويبدو أن هذه الإيضاحات صورت حلقات التغيير الثقافية غير الملحوظة.

أثارت التطورات التقنية موجة مثيرة من البحوث عن اللغة والثقافة، فعلى سبيل المثال؛ وجد فريق من الباحثين من جامعة ميشغن وجامعة تكساس في أوستن أن الأحداث الكارثية مثل أحداث هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية دفعت الناس إلى استخدام لغة أكثر اجتماعية ومجتمعية، واستخدمت عالمة النفس الثقافي (باتريشا قرينفيلد) أداة من غوغل تسمى “مستعرض ان-قرام N-Gram viewer” لتبين أن الأمريكيين كانوا يستخدمون لغة “انفرادية” أكثر مع مرور الوقت —أي كلمات مثل “الذات” و”فريد” و”فرد”— على حساب اللغة الجماعية مثل “طاعة” و”سلطة” و”انتماء” (استنسخت هذه الميول في الأسفل باستخدام مستعرض ان-قرام)، واستند عالمان آخران في علم النفس الثقافي هما (إيغور غروسمن) و(مايكل فارنم) على هذا العمل من خلال إظهار أن ارتفاع الحالة الاقتصادية والاجتماعية مسؤول عن الانفرادية المتنامية جزئياً.

تغيرات استخدام الكلمات الجماعية على مدار ٢٠٠ سنة

المصدر: مستعرض غوغل ن-غرام

وشاركت أنا أيضًا في هذا البحث، بجانب معاونتي ( د. ميشيل جليفاند) وزميل مختص في علوم الحاسب (سوهام دي) والذي يعمل حاليًا في غوغل، واكتشفت أن الناس يستخدمون كلمات “فضفاضة” على مر مئتي سنة مضت، والتي تنمّ عن موقف إيجابي تجاه الحرية مثل “سماح” و”استقلال”، بينما يستخدمون كلمات “محدودة” تنمّ عن موقف سلبي تجاه الحرية مثل “منع” و”تقييد”.

كانت هذه السنين من الثقافة الأمريكية “الفضفاضة” وثيقة الصلة ببعض الاتجاهات السلوكية المثيرة للاهتمام، وبدا أن الناس يمارسون قدرًا أقل من ضبط النفس مع بداية ازدياد استخدامهم لكلمات أكثر إيجابية للحرية، وكانت فترة الاستخدام المعتاد للغة “الفضفاضة” هي الأعلى في معدلات ديون الأسر المعيشية، والتغيب في المدارس الثانوية، وحمل المراهقات. ولكن كانت الكلمات الإيجابية للحرية وثيقة الصلة أيضًا بالإبداع، وكانت أيضًا فترة الاستخدام المعتاد للغة “الفضفاضة” هي الأعلى في معدلات إنتاج الأفلام وطلبات براءات الاختراع والعلامات التجارية، وحتى معدلات أعلى في أسماء المواليد المبتكرة وغير المألوفة، (نشرنا هذه الاستنتاجات حديثًا في مجلة نيتشر هيومن بيهيفر).

ولو أجرينا هذا البحث قبل عشرين سنة، لأخذ الأمر منا سنينًا، وكنا سنحتاج قراءة مجهدة وتحليل لمئات الكتب، وستكون نتائجنا بعيدة عن أن تكون مقنعة أو شاملة كنهجنا الرقمي في القرن الواحد والعشرين، وينطبق الأمر أيضًا على كل دراسة أخرى استخدمت نهجاً معتمداً على الحاسب لدراسة التغيرات الثقافية من خلال استخدام اللغة. 

ولكن هناك جانب سلبيّ لهذا النهج الرقمي، وقد يصعب معرفة ما إذا كانت الثقافة تتغير فعلًا حين يختلف استخدام الناس للغة، وهل ازدياد استخدام كلمات مثل “سماح” و”استقلال” يعني أن الثقافة تصبح فضفاضة أكثر فعلاً؟ وهل تناقص كلمات مثل “انتماء” يعني أن الثقافة تصبح فردانية أكثر؟

◄مشكلة اللغة:

قد تصبح اللغة مضللة تماماً بكونها نظام مصمم للتواصل، تأمل هذه الطرفة عن صيادَين يمشيان في غابة عندما توقف أحدهما فجأة ووقع على الأرض، توقع الصياد الآخر أن صديقه توفي واتصل بالطوارئ في هلع، فأخبرته الموظفة بأن يهدأ ويتأكد من وفاة صديقه، ثم سمعت طلقا ناريّا وبعدها صوت الصياد يسألها: “تمّ، ماذا بعد؟”، يسخر التاريخ بالتباسات مشابهة. وتشير بعض الحسابات إلى أن “شبه جزيرة يوكاتان” في المكسيك سُميت بذلك لأن “يوكاتان” في لغة المايا تعني “لا أفهم ما تقول”، عندما سأل المستكشفون الأسبان عن اسم المنطقة جاوبهم شعب المايا “لا نفهم ما تقولون” لأنهم لم يفهموا السؤال.

هناك حالات سوء فهم قد تنشأ من التحليل الرقمي لتغير اللغة، منها : تناقص استخدام كلمة مع مرور الوقت قد يعني ببساطة أن الكلمة قد استُبدلت (يستخدم المتحدثون للإنجليزية في هذا الوقت “before” بدلًا من “ere”)، وقد تستخدم الكلمات في سياق عكس ما تعنيه (“لا “يسمح” المجتمع للناس بأن يكونوا أحرارًا”)، وقد يشير ازدياد استخدام كلمة مع الوقت إلى اتجاه أدبي لا علاقة له بالمعنى الأصلي للكلمة (عندما يقول الناس “لنشاهد نتفلكس ونستمتع Netflix and chill” فهم لا يتحدثون عن درجة الحرارة – كلمة chill تعني الجو بارد وتُستخدم في السياق السابق بمعنى استمتاع-.)

أشارت العديد من الدراسات والشروحات إلى هذه القيود، وأوجزتها مقالة معروفة من مجموعة باحثين في جامعة فيرمونت في مقالة بعنوان (وصف مدونة كتب غوغل: قيود قوية للاستدلال بالتطور الاجتماعي الثقافي واللغوي)، وأثارت مقالة أحدث من مجلة نيو ساينتست بعنوان “هل فحص الكتب سيكشف فعلًا عمّا إذا كانت الولايات المتحدة تصبح أكثر تسامحًا” بعضًا من هذه النقاط مجددًا في نقد مدروس لبحثي الشخصي، تقدم هذه المقالات نقاطاً جيدة تجعلنا نتساءل عن معنى تغير اللغة حقًا، وإن كان هذا له أي علاقة بالثقافة.

◄بعض الحلول المحتملة:

تحملني هذه المقالات إلى السؤال المسمى به المقال: “هل تتغير الثقافة بتغير اللغة؟” إجابتي المختصرة هي “نعم، ولكن ليس دائما”. أما الإجابة المطولة فهي أن بحوث اللغة والثقافة معقدة جدًا، ولكن هناك ثلاث استراتيجيات رئيسية يستخدمها الباحثون لتحديد الاكتشافات الموثوقة، وأوصي بالاطلاع على هذه الاستراتيجيات عندما تقرأ بحثًا يستخدم اللغة لفهم تغير الثقافة، وأوصي باستخدام هذه الاستراتيجيات إن كنت تفكر في العمل على هذا البحث.

الاستراتيجية الأولى: انظر لما هو أبعد من الكلمات، تظاهر بأنك باحث يعمل على بحث عن الفواكه والمجتمع الأمريكي، وتساءل إن كان الناس يتناقشون عن الفواكه أكثر أو أقل عمّا اعتادوا عليه، واستخدم نهجا رقميا لتحديد اتجاه غريب، يظهر تناقص كتابة الناس لكلمة “تفاح apple” حتى حوالي عام ألف وتسمعمائة وثمانين، وبعدها تزايد استخدام الكلمة، وشاع استخدامها حتى اليوم، قد تستنتج أن الفاكهة تشهد انتعاشًا في الثقافة الأمريكية، مع أن شركة ( Apple ) هي المسؤولة على الأرجح عن تنامي استخدام كلمة “apple”.

يشير هذا الخطأ إلى حاجة الباحثين إلى استخدام العديد من الكلمات المترابطة عندما يعملون على بحث عن اللغة والتغير الثقافي، ففي المثال أعلاه، ربما يصل شخص استخدم كلمات عن خمسين فاكهة مختلفة إلى نتائج أكثر ثقة من شخص اقتصر بحثه على كلمة “تفاح apple”، ولقد استخدمنا في بحثنا عن الحرية والقيود عشرون كلمة “فضفاضة” مختلفة وعشرون كلمة “محدودة” مختلفة لتحديد الاستخدامات الشائعة عبر الزمن، بالإضافة إلى تأكدنا من أن استخدام هذه الكلمات يتزايد ويتناقص معًا مع الوقت، والذي يوحي أن ازدياد وانخفاض استخدام هذه الكلمات كان ذو معنى، ولو كان تغير استخدام الكلمة يعكس ببساطة نفيًا أو تعابير غير اعتيادية أو كلمة مستبدلة، فلن يكثر استخدام هذه الكلمات معًا عبر التاريخ.

الاستراتيجية الثانية: تأكد من إمكانية اللغة من التنبؤ بالاتجاهات غير اللغوية، فعندما نواجه نحن البشر شكٌ ما، فإننا عادة نثق بأحاسيسنا لتدلنا على الطريق، فنشتمّ الحليب لنتأكد من صلاحيته، ونجرب المفاتيح واحدًا تلو الآخر حتى نعثر على مفتاح الباب الجديد، وبنفس الطريقة تقريبًا يجب على الباحثين استخدام الفطرة السليمة للتأكد من أن الاتجاهات اللغوية تعني المجال المعني بالدراسة، فإن اعتقد باحثٌ ما بأن استخدام كلمة “تفاح apple” تعكس استهلاك الأمريكيين للفاكهة، فيجب ربط استخدام الكلمة في السنة مع عدد التفاحات المباعة في نفس السنة.

أحيانًا يتعذر توفر هذه المقاييس الأخرى عن التغير الثقافي أو أنها متاحة فقط لفترة قصيرة زمنيًا، ولكن غالبًا هناك ما يكفي لتكوين فكرة جيدة عمّا إذا كانت الاتجاهات اللغوية فعلًا تقيس التغير الثقافي، فعلى سبيل المثال، وجدنا في بحثنا عن الحرية والقيود أن سنوات استخدام الناس لكلمات “فضفاضة” أنها حظيت بمعدلات أقل للنظم المجتمعية؛ أي عدد أقل في القوانين الصادرة، وفي الحالات المنظور فيها في المحكمة العليا والمشاركات الدينية، وازدياد الألفاظ النابية في الأفلام والتلفزيون، ووجد (إيغور غروسمن) و(مايكل فارنم) في بحثهم أن ازدياد اللغة الانفرادية قابلها ازدياد في معدلات الطلاق، وتقلص حجم الأسر، وازدياد عدد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم، فهذه الفحوصات ضرورية للتأكد من أن تغير اللغة يحدث تقلبات حقيقية في المجتمع.

الاستراتيجية الثالثة: لا تختر الكلمات بنفسك؛ فعند بداية الدراسة عن استخدام اللغة والتغير الثقافي، يكون اختيار الكلمات التي تبدو كمقاييس وجيهة مغرية ظاهريًا، ويبدو واضحا أن كلمة “الذات” وكيل لغوي مناسب عن الفردية، وكلمة “الاستقلالية” عن الحرية، ولكن قد تكون هذه الاستراتيجية خطيرة، فمن المُغْريِ مثلًا اختيار كلمات يبدو أنها تتبع النموذج الذي توقعت العثور عليه، وربما شعرت بأن المجتمع الأمريكي أصبح أكثر فردية، فسيكون سهلًا اختيار كلمات تتعلق بالفردية ويظهر ازدياد استخدامها أكثر مع الوقت، في حين استبعاد كلمات يظهر أن استخدامها يقل أكثر فأكثر، وربما قد تختار أيضًا كلمات مألوفة لك ولكن لا تُستخدم كثيرًا، ويستخدم الباحثون عادة كلمة في استبياناتهم لا يستخدمها أحد في الحياة الواقعية.

إن أفضل طريقة لتجاوز هذه المشاكل هي تفادي اختيار الكلمات في تحليلك، ففي بحثنا عن الحرية في المجتمع الأمريكي مثلًا استخدمنا خوارزمية حاسوبية اختارت كلمات يظهر أن الناس يستخدمونها معًا عندما يتناقشون عن مواضيع متعلقة بالحرية، وتُقدِّر الخوارزمية التي استخدمناها التشابه الدلالي لأي كلمتين بنشر الكلمات في مساحة ضخمة متعددة الأبعاد، كلما ازداد استخدام الناس للكلمات معًا، تصبح أكثر قربًا في هذه المساحة. وتُسمى هذه الخوارزمية ب(word2vec).

ومن بين هذه الاستراتيجيات ربما تكون الأخيرة أصعب استراتيجية للتطبيق، حيث يبدو طبيعيًا لنا أن نختار الكلمات في دراساتنا بما أننا علماء في التغير الثقافي، ومن المفترض أن نكون خبراء في هذا المجال، ولكن بالجمع بين الاستراتيجيتين الأخريين، والاستعانة بمصادر خارجية في اختيار الكلمات المستخدمة في دراسة ما يجعل المنهج أكثر صرامة من الناحية العلمية عند استخدام اللغة في تحليل التغير الثقافي.

◄ختامًا:

نحن نعيش في وقت مثير لدراسة التغير الثقافي، ومن خلال المناهج المعتمدة على الحاسب نكتشف ونوضح سريعًا التحولات المذهلة في استخدام الناس للغة، مع نتائج واضحة في تتبع التغيرات في المجتمع، ونستطيع مع هذه المناهج إجابة الأسئلة التي كانت مستحيلة التصور حتى؛ مثلًا: هل استخدم الناس لغة أكثر تنوعًا أو تطابقًا عبر التاريخ المكتوب؟ كيف لمحتوى تغريدة أن يغيّر احتمالية انتشارها؟ وما الذي يجعل الناس والأقاليم أكثر احتمالًا لانخراطهم في تصرفات خطرة على الإنترنت؟

هناك قيود وتحديات لاستخدام اللغة لدراسة التغير الثقافي، ولكنها ليست مستعصية، وتفيد الاستراتيجيات التي بينتها هنا في تخطيها، ويجدر الأخذ بالاعتبار أننا إن لم نستخدم اللغة لدراسة التاريخ البشري، فماذا لدينا؟ إذ لا يوجد أي نوع من السجلات التي تعود إلى تاريخ بعيد أو توفر مثل هذه المعلومات الثريّة، ويمكن القول أن اللغة هي أفضل وسيلة نملكها —أو ملكناها على الإطلاق— لفهم التغيرات عبر التاريخ البشري، ولذا يجدر التأكد من أننا ندرسها بأفضل الطرق المتاحة لنا.

ترجمة: بيادر النصيان

@bayader_nus

مراجعة: افراح السالمي

Twitter: @fara7alsalmi

المصدر:https://www.psychologytoday.com


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!