علم النفس والأدب

علم النفس والأدب

15 سبتمبر , 2017

 

العلاقة بين الأدب والنفس لاتحتاج إلى إثبات؛ لأن ليس ثمة من ينكرها، وكل ماقد تدعو الحاجة إليه هو بيان هذه العلاقة ذاتها وشرح عناصرها.

على أي نحوٍ يرتبط الأدب بالنفس؟ أيُستَمد الأدب من النفس أم تُستَمد النفس من الأدب؟ أم أن العلاقة بينهما علاقة تبادل من التأثير والتأثر؟

إن النفس تَصنع الأدب وكذلك يَصنع الأدب النفس. النفس تجمع أطراف الحياة لكي تصنع منها الأدب، والأدب يرتاد حقائق الحياة لكي يُضئ جوانب النفس. والنفس التي تتلقى الحياة لتصنع الأدب هي النفس التي تتلقى الأدب لتصنع الحياة. إنها دائرة لايفترق طرفاها إلا لكي يلتقيا.

 

إن المتتبع لظهور مسار القراءة النفسية في النقد العربي يجد أن جذورها الأولى قد برزت منذ العصر العباسي، خاصة عند “ابن قتيبة” في مقدمته للشعر والشعراء، وتبعه في ذلك “أبو هلال العسكري” في “الصناعتين”، والقاضي الجرجاني” في “الوساطة”؛ واتضحت ملامح النقد النفسي بشكلٍ جليٍّ عند “عبد القاهر الجرجاني” في كتابيه” أسرار البلاغة ” و “دلائل الإعجاز”.

 

كما وجد “العقاد” و”النويهي” – في بعض أعلام العصر العباسي: “بشار بن برد” و”أبي نواس” و”ابن الرومي” و”المتنبي” وإبداعهم – المادة المناسبة ، نظرًا لما عرفت به هذه الشخصيات من سماتٍ خاصة ، فبادر “العقاد” إلى دراسة “أبي نواس” و”ابن الرومي” محاولاً تطبيق جملة من النظريات النفسية على هذين الشاعرين وجعلهما حقلاً خصبًا لإبراز جملة من العقد ومظاهر الشذوذ من سيرتهما وإبداعهما ومراجعتها على ضوء الأبحاث السيكولوجية. ونحا نحوه “النويهي” في دراسته للشخصيتين السابقتين؛ إلاّ أنّ ما ميَّز الدراستين عند الناقدين توصلهما إلى نتائج مختلفة في نوع العقد التي كانت أساس التركيبة النفسية للشاعرين، ومدى تأثيرها في النص الإبداعي متفقين على الطابع العصابي لديهما.

 

الشخصية .. بين الدراسة النفسية والتصور الأدبي:

إن ما بين الأفراد من أوجه الخلاف أكثر مما بينهم من أوجه التشابه. لئن صدق أحدهم حين قال: مامن ورقتين على أغصان الشجر تشبه إحداهما الأخرى شبهًا تامًا، حتى ولا وجهي التوأمين اللذَين نشآمن بيضةٍ واحدةٍ. ولئن صدق هذا على ملامح الوجه، فإنه على ملامح النفس وسمات الطبع وصفات الخلق أصدق.

على أن هذا لايضير أن يدرس – عالِم النفس – الصفات المشتركة بين الأفراد. فكما أن اختلاف أوراق الشجر لايمنع عالِم النباتات من أن يدرس خصائصها وأن يصفها في أجناس وأنواع تبعًا لما بينها من وجوه الشبه و وجوه الاختلاف، تاركًا للرسّام أن يصوّر منها ورقة بالذات، وكذلك اختلاف أفراد البشر ، مايجب أن يمنع عالم النفس من أن يدرس خصائصها وأن يصنفها في نماذج وفئات تبعًا لما بينها من وجوه الشبه و وجوه الاختلاف، تاركًا للروائي أو الشاعر أن يصوّر منها فرداً بالذات.

 

سيكولوجية الأديب:

كثير من الغموض يكتنف شخصية الفنان هذا شيء أدركه الناس في كل الأزمنة، منذ أن وقف الشاعر يغني لهم أهازيجه فيهز مشاعرهم. وأمام هذا الغموض راحوا يفسرون هذه الشخصية بما هو أغمض عندما فرضوا وجود قوى روحية غريبة (سموها حينئذ شياطين) تتصل بهذه الشخصية وتساندها. وذاعت لدى العرب منذ وقت مبكر أن لكل شاعر شيطان يوحي إليه الشعر.

وقد استفاض الحديث عن علاقة الشعراء بالجن وسماعهم لهم وتلقيهم عنهم عنهم.

وكان ذلك هو التفسير الأول لتمايز شخصية الشاعر عن بقية الناس وقدرته الفذة التي خيل إليهم قديماً أنها لايمكن أن تكون لبشر.

هناك من حاول ربط القدرة على الإبداع الفني بعصاب الشاعر أو الكاتب، والحق أن وراء هذه الفكرة الشائعة فكرة أخرى قديمة متأصلة تقول إن الحصول على المقدرة لا يكون إلا بالمعاناة.

وربط العصاب بالإبداع الأدبي يفسر بأن بعض العصابيين من الناس قادرون على أن يروا أجزاء معينة من الواقع وأن يروها في قوة أكثر مما يستطيع غيرهم، ذلك أنهم أكثر قدرة على الفهم من الناس العاديين فكثير من مرضى العصاب يكونون في أحوال بعينها أقرب صلة بوقائع اللاشعور من الناس السويين وبالتالي فمن المحتمل أن يكون التعبير عن المعنى العصابي للواقع أكثر كثافة وحدة من التعبير العادي.

 

إن السعادة والسلام الداخلي لايتفقان مع الإبداع الفني فإنما الإبداع ابن الحساسية المرهفة العصابية والفنانون يعرفون هذا عن أنفسهم “إن الحساسية تلتهمني التهاماً، فما يمس الآخرين مساً يجرحني أنا جرحاً وينزف دمائي” (الروائي ستاندال). وليست مظاهر الحساسية إلا استجابات عصابية. إن العصابي يبني في نفسه عالماً خيالياً ففي ذلك العالم الداخلي يعيش، ويتعذب، ويفرح في الوقت نفسه، لأن هذا العالم الخيالي قد أنشئ وفقاً لحاجاتهورتب ترتيباً فنياً بحيث لو كان العصابي يملك موهبة ما لكان يمكن أن يصبح شاعراً وأن تخرج من عالمه الخيالي آثار إبداع فني.

ويخلص داركوليدس إلى القول: “إن الفنان يسعى من خلال خياله وآثاره إلى إرواء رغباته إنه من وجهة النظر السيكولوجية بين الحالم والعصابي ففي هذه الحالات الثلاث (الحالم، الفنان، العصابي) هناك هروب من الواقع و عودة إلى العالم الخيالي مع فرق واحد هو أن الحالم يعود إلى الواقع حين يستيقظ، والفنان يعود إلى الواقع بصناعته، وأن العصابي هو الوحيد الذي يستمر على الانحباس في حلم عالمه الخيالي.

وعلى الرغم من الشواهد العديدة التي يستدل بها على ارتباط الإبداع بالعصاب إلا أن النجاح العقلي لا ينبغي أن يعزى وحده إلى العصاب وإنما يجب أن يعزى إلى العصاب أيضاً الإخفاق والقصور النفسي.

فلا يمكن القول بأن العصاب دائما يقود إلى الإبداع أو حتى غالبا!! فالعصاب يقود النفس إلى الهاوية في كثير من حالاته أيضاً.

 

الشاعر .. والهروب إلى الخيال:

يقال أننا نحب الفن لأنه يعزينا. ولكن الخدر الذي يغرقنا فيه الفن خدر متهرب وا أسفاه..إنه انسحاب بسيط أمام ضرورات الحياة، الضرورات القاسية، وليس يبلغ من العمق مايكفي لجعلنا ننسى شقاءنا الواقعي. إن الإبداع الفني لايصفي دائمًا الصراعات في الحياة العملية التي يحياها الفنان، وإنما يبقى هذا الفنان في أكثر الأحيان معرضًا لضروب الإخفاق وللعصاب غير أن الإبداع الفني يحرره بمقدار مايبدع.

 

أصحيح أن الشاعر أو الفنان يهرب من الواقع أو يحاول؟ أيكون استخدامه للخيال دليلا على ذلك؟

يكمن جواب ذلك بأن الشاعر حين يستخدم خياله لايهرب من الحقيقة بل يلتمس الحقيقة كذلك في الخيال. فالخيال والواقع كلاهما وسيلة لنقل ذلك الصراع الذي يعاني منه الفنان، ومن ثمَّ يتضح الخطأ في استنتاج أن رغبة الفنان في الهروب من الواقع هي التي تدفعه إلى الإبداع الفني من حيث إن هذا الهروب من الواقع يكون إلى عالم خيالي ومن حيث إن الخيال عنصر لازم في الإبداع الفني. فالحقيقة أن الشاعر يحتال على الواقع بالخيال، أي أنه يحاول تعميق الواقع بالخيال، فهو إذن لايهرب منه بل يغوص فيه. وربما كان الأصح أن نقول إنه إنما يحاول الهروب من “حالة” إحساسه الحاد بالواقع، واقعه النفسي الذي يموج بألوان الصراع. وهو أدنى إلى التخلص منه إلى الهروب. وعندئذ يكون الدافع إلى الإبداع هو الرغبة في التخلص من هذا الواقع لا الهروب منه وتركه هناك إلى عالم آخر خيالي لايمتّ إليه بصلة.

 

 

بماذا أوحى الأدباء لعلماء النفس:

قبل أن يظهر “فرويد” في الميدان لكي يبحث عن الأنا كتب “ادجار ألن بو” إلى أحد أصدقائه عن رأيه الجمالي فقال: “حينما نقسم عالم العقل إلى أقسامه الثلاثة الواضحة المباشرة يكون لدينا العقل الصرف، والذوق والحس الأخلاقي…، وكما أن العقل يُعنى بالحقيقة فإن الذوق يدلنا على الجميل في حين أن الحس الأخلاقي يهتم بالواجب”

 

كان “فرويد” يعقد مقارنة بين الروائي وعمل الطبيب النفسي، ويقول إن الاثنان مجالهما الحياة النفسية، ومايصل إليه الطبيب النفسي بالعلم يبلغه الأديب بالحدس.

وقد ذكر أنه ليس صاحب الفضل في الكشف عن العقل الباطن، وقال: إنَّ الفضل الصحيح يعود إلى الأدباء.

وكان قد أشار – غير مرة – إلى أن الأدباء هم أساتذته، فهم الذين أدركوا بحدسهم الأدبي وبصيرتهم الفنية ماانتهى هو إلى تقريره بمناهج البحث العلمي.

 

هذا على الرغم من أن بعض الموضوعات التي اقتبسها “فرويد” من الأدباء واستند عليها في بعض تحليلاته تعد ضربًا من الأساطير ليس إلا، الأمر الذي أثار جدلاً حول بعض ماتوصل إليه فرويد كاستناده على عقدة أوديب مثلاً في بعض تحليلاته.

 

 

 

المراجع:

إبراهيم فضل الله، علم النفس الأدبي

حامد زهران، الصحة النفسية والعلاج النفسي

عز الدين إسماعيل، التفسير النفسي للأدب

سامي الدروبي، علم النفس والأدب

محمد بلوحي، آليات الخطاب النقدي الأدبي الحديث

 

 

كاتبة:  مرام عبدالعزيز

Twitter: @imeemr1

تدقيق: حمد الصقر

Twitter: @HmdSgr


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!