الطب 2.0

الطب 2.0

21 أغسطس , 2014

الطب

تمر العملية العلاجية لأي مريض بعدد كبير من المراحل تبدأ بمعاينة المريض و تنتهي بعلاجه و تأهيله، غير أن أهم مرحلة في هذا كله هو التوصل إلى التشخيص الصحيح لبناء العملية العلاجية السليمة. و على الرغم من أهمية هذه النقطة تماما للحفاظ على صحة المريض إلا أننا في الغالب لا نستطيع إثبات التشخيص بشكل قطعي و بدليل مباشر. و لعل المقصود يتضح بالمثال التالي: حينما يعاني شخص من التهاب في الرئة و يحضر إلى المستشفى، تبدأ العملية بأخذ تاريخ مرضي مفصل و عمل فحص سريري متكامل، لا شك أن وجود ارتفاع في الحرارة و وجود آلام في الصدر مع بلغم مثلا مصحوباً بتغيرات معينة في الفحص السريري يعرفها المتخصصون غير أن هذه الأمور ليست محددة فقط للالتهاب الرئوي و قد تحصل في أمراض أخرى مثل تجمع سوائل حول الرئة أو انهيار الفص السفلي في الرئة (atelactasis). ماذا إذًا عن الفحوصات المختبرية و أشعة الصدر؟ في الحقيقة أن هذه الاختبارات قد تشير إلى وجود ارتفاع كريات الدم البيضاء دليلاً على وجود رد فعل مناعي لكن هذا غير محدد و قد نراه في العديد من الأمراض.

أيضاً التغييرات التي نشاهدها في الأشعة ليست محددة قطعاً بالتهاب الصدر و قد تكون شيئاً آخر ، قد يقول البعض إذا كنا نريد دليلاً على الالتهاب فعلينا أن نعمل مزرعة بكتيرية للدم أو خزعة من الرئة المصابة، بالتأكيد أن هذه الأمور ممكنة نظرياً إلا أن الوقت لا يقف إلى جانبناً إذ أن المزرعة قد تأخذ حتى يومين قبل الحصول على نتيجة و هذه الفترة كافية لكي تحصل للمريض مضاعفات خطيرة تصل للوفاة!
هذا المثال البسيط يا أصدقاء هو ما يواجه الأطباء في عملهم السريري اليومي عند معاينة المرضى،عادةً ما يقوم الأطباء بأخذ التشخيص الأقرب و معالجة المريض بناءً على ذلك و متابعته لمعرفة الاستجابة، إذا استجاب المريض فهذا يعني أن التشخيص صحيح و إذا لم يتحسن المريض نعود للمربع الأول و نبدأ من جديد.
لا يحتاج أي شخص إلى درجة علمية لكي يعرف أن هذه الطريقة ليست ذات جدوى كبيرةٍ تمامًا، خاصةً عندما تكون حالة المريض غير مستقرة أو تتدهور رغم العلاج لكنها هي ما نملك في الوقت الحالي و تصبح الخطة المعتادة غير قابلة للتطبيق.

عكف الأطباء و الباحثون عقوداً من الزمن لمحاولة حل هذه المشكلة الكبيرة و لعلهم وضعوا أيديهم على الحل أخيرًا!
وجد الأطباء المعالجون في مستشفى ماديسون الأمريكي أنفسهم أمام مشكلة مماثلة لما ذكرناه عند معاينتهم لجوشوا ذو الأربعة عشر ربيعاً. كان جوشوا يعاني من مرض وراثي يؤدي إلى ضعف في المناعة مما يجعله عرضة للالتهابات المختلفة منذ كان عمره شهرين. في أحد الأيام حضر جوشوا إلى مستشفى الأطفال و هو يعاني من ارتفاع في الحرارة و تقيؤ مع صداع شديد. قام العلماء بعمل فحوصات شاملة للدم و البول و أيضًا عينة من السائل الشوكي مع مزارع بكتيرية مختلفة دون الوصول إلى أي نتيجة محددة. كانت أشعة الدماغ تشير إلى تضخم الخلايا الدماغية مما يدل على وجود التهاب في قشرة الدماغ (Encephalitis) دون أن يتمكن العلماء من الوصول إلى المسبب لذلك الالتهاب. قام الأطباء بالبدء ببعض المضادات الحيوية دون جدوى ثم أنه يوجد العشرات و العشرات من هذه المضادات التي تستخدم لعلاج المئات و المئات من أنواع البكتيريا المختلفة و لا توجد أي معلومات لديهم من الممكن أن تساعدهم في الحل. بعد عدد من الأيام من العلاج تدهورت حالة جوشوا الصحية و أصبح في غيبوبة كاملة و وضعه الأطباء على أجهزة التنفس الصناعي. كاد الأطباء و الأهل أن يفقدوا الأمل تماما إلا أن أحد الأطباء اقترح استشارة أحد الباحثين لمعرفة إذا كان من الممكن استخدام أجهزة التحليل الجيني للوصول إلى نتيجة كمحاولة أخيرة قبل إيقاف أجهزة الإنعاش.

فتم الحصول على عينة أخرى من السائل الشوكي و تم إرسالها إلى مركز الأبحاث على وجه السرعة. خلال أقل من ٤٨ ساعة كانت الأجهزة قد حللت 3 مليون قطعة من الحمض النووي و قارنتها مع السجلات المحفوظة و السجلات المتواجدة على شبكة الإنترنت. النتيجة كانت أن أغلب الحمض النووي ينتمي للمريض لكن تمكن الجهاز من التقاط قطع من الحمض النووي لبكتيريا قاتلة تسمى Leptospira تم نقل الخبر على وجه السرعة إلى الفريق المعالج و تم البدء بإعطاء المريض العلاج المناسب و النتيجة أن جوشوا تحسن و كان يمشي على قدمية خلال أسبوعين من بدء العلاج.
هذه القصة بعثت الحماس في أنحاء العالم و جددت الأمل في إيجاد طريقة لتشخيص الأمراض بعيداً عن التخمين الذي قد يخطئ أو يصيب.نعم لا تزال هذه التقنية في مرحلة الخطوات الأولى لكنها تعني أننا نشهد الآن تحولًا كبيرًا في طريقة تشخيصنا للأمراض و معالجتها. سيصبح استخدام التحليل الجيني المحدد السريع جزءًا مهما في العملية العلاجية خلال ٢٠-٣٠ سنة القادمة سواءً في مجال الالتهابات المعدية أو الأورام السرطانية أو غيرها. قد يكون ذلك سبباً لتغيير وجهة الطب تماما كما فعلت المضادات الحيوية في القرن الماضي، دمتم بصحة.

 

المصدر:
The new York times

شارك المقال

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!