crossorigin="anonymous">
15 يوليو , 2017
“الحمض النووي الخاص بك ليس عبارة عن مخطط، يوما بعد يوم، أسبوعا بعد أسبوع، تتحادث الجينات الخاصة بك مع محيطك الجيران وعائلتك، مشاعر الوحدة التي تشعر بها: إنها لا تدخل فقط تحت جلدك، ولكنها تدخل في غرف التحكم داخل خلايا جسمك. داخل علم اجتماعي جديد من علم الوراثة” كما قاله ديفيد دوبس.
قبل بضع سنوات في مدينة “أوربانا” ولاية إلينوي في أمريكا طلب “جين روبنسون” من بعض زملائه في جنوب المكسيك لمساعدته على خطف 1000 من النحل حديثي الولادة، ولضحيتهم اختاروا النحل كان نصفهم من نوع النحل الأوروبي، وهو النوع جيد المزاج الذي يربيه معظم النحالين. أما النصف الآخر فكان ابن العم الوراثي -حسب التركيبة الجينية- للنحل الأوربي، سلالة النحل الإفريقية المعروفة باسم النحل القاتل. وعلى الرغم من أنه لا يمكن التمييز بين السلالتين تقريباً، إلا أن السلالة الأفريقية تدافع عن منطقتها بطريقة أكثر عدوانية. فإن ركلت خلية النحل الأوربية ربما ستهاجمك مئة نحلة. أما إن ركلت خلية النحل القاتل فربما ستعاني من ألف لسعة أو أكثر! ويجدر أن تعرف أن ألفين لسعه كفيلة بقتلك!
زملاء روبنسون المتآمرين هم في الواقع باحثون في المركز الوطني المكسيكي للبحوث في علم وظائف الأعضاء الحيوانية، في منتجع مرتفع في مدينة “إكستابان دي لا سال”. عمل هؤلاء الباحثون بعناية على هز وإرخاء الأغطية عن خليتين من السلالة الأفريقية وخليتين من السلالة الأوروبية، ثم سحبوا بضعة رفوف من خلايا العسل، والتقطوا حوالي 250 نحلة من أصغر النحل من كل خلية، رسموا علامات على ظهور النحل الصغيرة ثم بدلوا كل مجموعة من حديثي الولادة في الخلية مع السلالة الأخرى.
عندما عاد روبنسون إلى مكتبة في جامعة إلينوي في أوربانا “شامبين” في قسم الحشرات لم يقلق بشأن سلامة النحل. لأنه كان يعلم أنه إذا ما تم نقل نحل إلى مستعمرة جديدة في يومهم الأول، فسوف تتقبلهم المستعمرة كأنهم جزء منها. ومع ذلك كان يتوقع روبنسون أن تؤثر منازل التبني الجديدة على النحل وتغيرهم: كان يتوقع أن يتخذ النحل القاتل طرق النحل الأوربي المعتدلة وأن يتخذ النحل الأوربي المزاج العنيف للنحل القاتل. قد اكتشف روبنسون هذا قبل في تجارب سابقة، لكنه لم يكن يعرف كيفية حدوثه بعد.
كان يشتبه أن الجواب يكمن في جينات النحل، ولم يكن من المتوقع أن يتغير الحمض النووي الفعلي للنحل. إذا وضعنا الطفرات الجينية العشوائية جانباً، فالجينات بشكل عام لا تتغير خلال حياة الكائن الحي. بدلاً عن ذلك كان يشتبه بأن تتصرف جينات النحل بشكل مختلف في منازلهم الجديدة -مختلف بشكل جامح-.
كان هذا المفهوم معقولاً ومتطرفاً على حد سواء. عرف العلماء منذ عشرات السنين أن الجينات يمكن أن تختلف في مستوى النشاط، كما لو كان بالإمكان التحكم بها عن طريق مقابس. معظم الخلايا في جسمك تحتوي على كل من 22,000 من جيناتك تقريباً. ولكن في أي خلية معينة في أي وقت من الأوقات، نسبة ضئيلة فقط من تلك الجينات تكون نشطة، وترسل رسائل كيميائية تؤثر على نشاط الخلية. هذا النشاط المتغير للجين، يسمى “بالتعبير الجيني”، وهو الذي من خلاله يؤدي جسمك معظم وظائفه.
في بعض الأحيان المقابس المسؤولة عن تقليل نشاط الجينات تتوافق مع الأحداث البيولوجية الأساسية، كما هو الحال عندما كانت أنسجة جسمك تتكون داخل الرحم، أو عندما دخلت سن البلوغ، أو عندما توقفت عن النمو. وفي أحيان أخرى يتسارع النشاط الجيني أو يتباطأ استجابة للتغيرات في البيئة الخاصة بك. لهذا السبب بعض الجينات تصبح نشطة لتكافح العدوى أو لتساعد في التئام الجروح أو قد يخرج نشاط الجينات عن السيطرة فتتسبب بالسرطان أو بارتفاع درجة حرارة الحمى في الدماغ. التغيرات في التعبير الجيني يمكن أن يجعلك نحيل، أو بدين، أو مختلف جداً عن توأمك الذي يفترض أن تكون مطابقاً له. عندما يتعلق الأمر بالجينات، فهي ليست المسؤولة عن جعلك ما هو أنت عليه اليوم. التعبير الجيني هو المسؤول عن ذلك. ويختلف التعبير الجيني الخاص بك اعتمادًا على الحياة التي تعيشها.
كل عالم أحياء يقر بما سبق وكان ذلك هو الجزء الآمن والمعقول من مفهوم روبنسون. لكنه أختلف مع الكثير من العلماء عندما بدأ في التشكيك في الحكمة التقليدية القائلة بأن البيئة عادة ما تتسبب في إحداث تغيرات محدودة -إلى حد ما- في التعبير الجيني. قد تتسبب البيئة في تغير حاد في نشاط بعض الجينات كما يحدث في السرطان أو الهضم. ولكن في جميع الحالات باستثناء حالات خاصة قليلة، جرت الفكرة على النحو التالي: البيئة بشكل عام تزيد أو تقلل من نشاط عدد قليل فقط من الجينات في وقت واحد.
على خلاف ذلك اشتبه روبنسون في أن البيئة يمكن أن تؤثر في “قطاعات كبيرة من الجينات، على امتداد الجينوم” -وأن البيئة الاجتماعية للفرد قد تملك تأثيرا قويا بشكل خاص-. باختصار، إن الاشخاص الذين قضيت معهم وقتك وكيفية تصرفاتهم يمكن أن يؤثروا بشكل كبير على تحديد الجينات الخاصة بك التي اصبحت نشطة والجينات التي بقيت خاملة -وبالتالي يتغيير الشخص الذي كنت عليه-.
روبنسون كان بالفعل يرى ذلك في النحل. في فصل الشتاء الماضي، كان قد طلب من سيدريك الوكس -والذي كان يعمل على أبحاث ما بعد الدكتوراه- أن يلقي نظرة على الأنماط في التعبير الجيني للنحل الذي تعرض بشكل متكرر للفرمون” -مادة مشتقة من الهرمونات- تشير إلى وجود إنذار. (أي نحل يشعر بالتهديد ينبعث هذا الفرمون منه)، ويحدث هذا في وجود رائحة الموز، لهذا يقول “الوكس” أن أكل الموز بالقرب من خلية نحل ليست فكرة جيدة.
بالنسبة إلى النحلة الفرمون يقدم تصريح اجتماعي: يا أصدقاء أنتم في خطر. وكان روبنسون يعرف منذ فترة طويلة أن النحل يستجيب لهذا النداء ويتخذ تغيرات سلوكية وعصبية: يزداد النشاط الدماغي وتطير النحلة للعمل فوراً. كان يعلم أيضًا أن التعرض المتكرر للإنذارات يجعل النحل ذو السلالة الأفريقية أكثر عدوانية. عندما نظر الوكس إلى صورة التعبير الجيني عن النحل الذي تعرض بشكل متكرر للفرمون الذي يشير للإنذار، رأى هو وروبنسون السبب: مع الإنذارات المتكررة، ومئات الجينات -التي ارتبطت في دراسات سابقة مع العدوانية- زادت نشاطاً بشكل تدريجي. وهذا الارتفاع في التعبير الجيني يطابق وبدقة ارتفاع مستوى العدوانية للنحل استجابةً للتهديدات.
روبنسون لم يتوقع ذلك. “أن الفرمون أضاء التعبير الجيني، وأستمر في تركه أعلى” والسبب سرعان ما أصبح واضحاً؛ كانت بعض الجينات تتأثر بعوامل النسخ -وهي الجينات التي تنظم جينات أخرى- وأدى ذلك إلى استجابة متتالية للتعبير الجيني مع استجابة عشرات من الجينات .
هذه النتيجة هي التي الهمت روبنسون للقيام بهذه الدراسة وخطف النحل وتبديله. هل نقل أطفال النحل لبيئة اجتماعية مختلفة اختلافاً جامحاً سيعيد تشكيل منحنيات استجابة التعبير الجيني لها؟ كل خمسة إلى عشرة أيام كان شركاء روبنسون في إكستابان يرتدون الزي ويفتحون خلايا النحل، ويجدون نحو درزينة نحل متبنى في كل خلية، يقومون بشفطهم بجهاز شفط خاص ثم يطلقهم جهاز الشفط في مكان مبرد بواسطة النيتروجين السائل، البرد الشديد يجمد النحل على الفور-جميع خلايا النحل-، وبذلك يتم الحفاظ على حالة النشاط الجيني الخاص بهم في تلك اللحظة. وفي نهاية ستة أسابيع، عندما قام الباحثون بجمع حوالي 250 نحلة تمثل كل مرحلة من مراحل حياة النحل، وعبأ الفريق النحل المتجمد وتم شحنها إلى ولاية إلينوي في أمريكا.
هناك إزال فريق روبنسون أدمغة النحل التي بحجمها تشبه بذور السمسم، و أعدوها بتقسيمها لأجزاء، وجعلوها تمر خلال آلة النسق المايكروي للحمض النووي، وتم تحديد الجينات النشطة في دماغ النحل لحظة شفط النحل وتجميده. عندما فرز روبنسون البيانات وصنفها إلى مجموعات -النحل الأوروبية التي تربت في خلايا الأفريقية، على سبيل المثال أو النحل الأفريقية التي تربت بين ذويهم- أصبح بإمكانه أن يرى كيف كانت ردة فعل جينات كل مجموعة لحياتهم.
نظم روبنسون البيانات لكل مجموعة على شبكة من المربعات مصنفة بألوان حمراء وخضراء كل مربع يمثل جين مختلف، ولونه يمثل متوسط معدل المجموعة في التعبير الجيني. المربعات الحمراء تمثل الجينات التي كانت نشطة بشكل خاص في معظم النحل في تلك المجموعة. وكلما كان اللون الأحمر أكثر سطوعاً، كلما كثر النحل الذي كان يمتلك الجين النشط. المربعات الخضراء تمثل الجينات التي كانت صامتة أو الغير نشطة في معظم النحل في تلك مجموعة. النسخة المطبوعة من نتائج كل مجموعة يشبه نوعا من بطاقة كريسماس تكعيبية.
قال روبنسون: “كانت النتائج مذهلة” بالنسبة للنحل الذي كان قد اختطف، أن الحياة في منزل جديد بالفعل غيرت نشاط “قطاعات كاملة” من الجينات. نظرة سريعة على بطاقات بيانات التعبير الجيني للنحل المتبنى جنبًا إلى جنب مع بطاقات لمجموعات من النحل التي تربوا مع ذويهم كفيلة بإيضاح بأن التغيير جذري. مئات الجينات انقلبت ألوانها. الانتقال بين الخليتين لم يجعل النحل يتصرف بطريقة مختلفة فحسب، بل جعلت جيناتهم تعمل بشكل مختلف، وعلى نطاق واسع.
بالإضافة إلى ذلك، كانت بطاقات النحل المتبنى لكلا السلالتين تتشابه أكثر فأكثر كلما تقدم النحل في العمر. مع كل يوم يمر تتغير تصرفات الجينات لتصبح أكثر تشابها بجينات زملاء الخلية الجدد (وأقل تشابها بجينات اشقائهم في الخلية التي ولدوا فيها). عُرف عن العديد من الجينات التي أصبحت نشطة أو توقف نشاطها أنها تؤثر على السلوك، والعديد منها مرتبط بالعدوانية. بالإضافة إلى ذلك تصرفات النحل تغيرت لتطابق تصرفات زملائهم في الخلية. بدى أن الجينوم وبدون أن تتغير رموزه قادر على أن يحول الحيوان إلى شيء يشبه سلالة أخرى مختلفة عنه.
لم يكن النحل يتصرف بطريقة مختلفة فحسب، بل أصبح نحلًا مختلفا إلى حد كبير. بالنسبة إلى روبنسون، هذا وضح أن الجينوم أكثر مرونة -مرونة اجتماعية- مما كان يعتقد.
روبنسون سرعان ما أدرك أنه لا يرى هذا وحده. في المؤتمرات وفي الأعمال المنشورة، كان يلتقي بباحثين آخرين رأوا أن شبكات الجينات تستجيب بسرعة وعلى نطاق واسع للحياة الاجتماعية. وجد ديفيد كلايتون -متخصص في البيولوجيا العصبية هو الآخر في جامعة إلينوي- أنه إذا سمع ذكر عصفور الزيبرا عصفوراً آخر ذكر من نفس سلالته يغرد من مكان قريب، فإن جين معين موجود في مقدمة دماغ العصفور سوف يعاد استخدامه/تجنيده، وأنه يفعل ذلك بشكل مختلف اعتمادا على ما إذا كان العصفور الآخر غريباً يشكل التهديد، أو مألوف وآمن.
آخرون وجدوا نفس الجين الذي يسمى بـ(زينك) في فصائل أخرى. في كل حالة، يتغير نشاط زينك توافقاً لتغيرات في السلوك: قد يسترخي الطائر استجابة لتغريد، أو يصبح يقظ ومتوتر. باحثون في جامعة دوك على سبيل المثال وجدوا إناث عصافير الزيبرا عندما تستمع إلى تغريدات ذكور عصافير الزيبرا فأن الجين (زينك) أثار تغييرات ضخمة في التعبير الجيني في مقدمة أدمغتهم -منطقة في الدماغ حساسة اجتماعياً لدى الطيور وكذلك البشر-. اختلفت التغيرات اعتمادا على إذا ما كان التغريد نداء تزاوج أو ادعاء ملكية الإقليم. وربما بشكل ملحوظ أكثر، كل هذه التغييرات حدثت بسرعة لا تصدق -في غضون نصف ساعة، وأحيانا في غضون خمس دقائق فقط-.
كان يسمى زينك بـ”الجين العاجل المبكر”، وهو نوع من الجينات التنظيمية التي يمكن أن تغير نشاط شبكات كاملة لجينات أخرى. وقد تم بالفعل التعرف على هذا النوع من الاستجابة التنظيمية للتعبير الجيني في أنظمة فسيولوجية مثل الهضم والمناعة. الآن يبدو أن هذه الاستجابات تتكون بسرعة حسب الظروف الاجتماعية.
في عام 2005 كان هناك اثبات مذهل مبكر لاستجابة حصلت في مختبر عالم الأحياء رسل فيرنالد في جامعة ستانفورد، كان فيرنالد يدرس لعدة سنوات سمكة “استاتولابيا برتوني” التي تنتمي لعائلة القشريات الأفريقية وهي سمكة تعيش في مياه عذبة طولها بوصتين ذات لون رمادي مزرق باهت. وبحلول عام 2005 ظهر أن أعلى الذكور رتبة ودرجة يعيش كالفرعون السمكي، فهو يحصل على كمية أكبر من الطعام والإقليم والجنس أكثر من الذكر في المرتبة الثانية. وأن هناك دائماً ذكر في المرتبة الأولى وهذا الذكر يظهر مواصفات مختلفة كأن يكون أكبر في الجسم وسطوعاً في اللون، وتساءل فيرنالد ماذا سيحصل لو تم استبعاده؟
لذا في أحد الايام أشعل فيرنالد الضوء على أحد أحواض القشريات وحمل الذكر ذا المرتبة الأولى خارج الحوض، وبعد 12 ساعة أشعل الضوء مره أخرى. عندما رأى الذكر في المرتبة الثانية أنه الآن أصبح في المرتبة الأولى استجاب بسرعة. خضع لطفرات هائلة في التعبير الجيني فتغير لونه وظهرت شرائط زرقاء وحمراء متوهجة وفي غضون ساعات تسببت الطفرات في زيادة نموه بنسبة 20%.
يقول جريج راي -عالم الأحياء التطوري في جامعة دوك الذي ركزت ابحاثه على التعبير الجيني لأكثر من عقد من الزمان- :”أن هذه الدراسات سببت ضجة، أنت فجأة أصبحت تدرك أن الطيور، تسمع تغريداً وتبدأ تغيرات ضخمة وواسعة في نطاق التعبير الجيني في 15 دقيقة فقط؟! هناك شيء كبير يحدث!”
هذا الشيء الكبير، الاستجابة السريعة والمذهلة في التعبير الجيني للعالم الاجتماعي هي ظاهرة للتو بدأنا في فهمها. انفجار الاهتمام الحديث في “علم التخلق” – وهو مصطلح يعني حرفيا “حول الجينات”، ويشير إلى أي شيء يغير تأثير الجين دون تغير تسلسل الحمض النووي الفعلي- قد يميل إلى التركيز على المباراة الطويلة من التفاعلات بين الجينات والبيئة: على سبيل المثال كيف أثرت المجاعة بين الأمهات الحوامل في هولندا خلال الحرب العالمية الثانية على التعبير الجيني والسلوك لدى أطفالهم. أو كيفية تأثير أم الجرذان عن طريق لعق وتنظيف صغارها بطريقة أكثر أو أقل استمرارية، يمكن يغير من الأغلفة حول الحمض النووي لأبنائها في طرق تؤثر على مستوى القلق لدى الأبناء لبقية حياتهم. فكرة أن التجربة يمكن أن تحدث صدى في جيناتنا عبر الأجيال هي بالتأكيد فكرة قوية. لكن التركيز فقط على هذه التأثيرات الضيقة ذات المدى الطويل، يجعلنا نفوت الكثير من الإثارة عندما يتعلق الأمر بتأثير علم التخلق والنشاط الجيني. هذا العمل الجديد من قبل روبنسون و فرينالد و كلايتون وغيرهم -دراسات تشمل كائنات متعددة، من النحل والطيور والقرود والبشر- يوحي بأن هناك شيء ما أكثر إثارة: أن حياتنا الاجتماعية يمكن أن تغير التعبير الجيني لدينا بسرعة، واتساع، وعمق غفلنا عنه في السابق.
لماذا تطورنا نحن بهذه الطريقة؟ الإجابة الأكثر احتمالًا هي أن الكائنات الحية التي تستجيب بسرعة لبيئات اجتماعية سريعة التغير من المرجح أن تنجو منها. وهذا الكائن الحي لا يجب أن ينتظر كما كان يفعل، لتتطور جينات أفضل على مستوى الأنواع. اكتشف أطباء المناعة شيء مماثل قبل 25 عاما: التكيف مع مسببات الأمراض الجديدة بالطريقة القديمة -في انتظار الانتقاء الطبيعي ليحيز الجينات التي تخلق المقاومة ضد مسببات الأمراض المحددة- يمكن أن يحدث ببطء أشد من أن يواجه بيئة مسببات الأمراض سريعة التغير. بدلا من ذلك، يستخدم الجهاز المناعي لدى الإنسان شبكات من الجينات التي يمكن أن تستجيب بسرعة ومرونة للتهديدات الجديدة.
يبدو أننا نستجيب بنفس الطريقة لبيئتنا الاجتماعية. وفي مواجهة مجموعة معقده من السكان الذين يتغيرون باستمرار ولا يمكن التنبؤ بهم ويجب علينا التصدي بنجاح، جيناتنا تتصرف وفقا لذلك -كما لو كانت الاستجابة المرنة السريعة هي مسألة حياة أو موت.
في الوقت الذي شاهد فيه روبنسون التغيرات السريعة في التعبير الجيني للنحل، في مطلع عام 2000 هو والعديد من زملائه كانوا مهتمين في باحث واعد في جامعة كاليفورنيا يدعى “ستيف كول”.
كول نشأ في كاليفورنيا وعمره في مطلع الأربعين كان قد تدرب في علم النفس في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا وستانفورد. ثم في علم النفس الاجتماعي، وعلم الأوبئة، وعلم الفيروسات، والسرطان، وعلم الوراثة في جامعة كاليفورنيا. حتى عندما كان طالب جامعي تقول سوزان أندرسن -بروفيسورة علم النفس في جامعة نيويورك الآن التي كانت أحد اساتذته في جامعة كاليفورنيا في أواخر 1980:- أنه يفكر في تفاصيل الأشياء بدقة وأنه لديه نهج دقيق وذكي.
في عمله ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا، ركز كول على علم الجينات في المناعة والسرطان لأن تلك الحقول أصبحت رائدة في بحوث التعبير الجيني. بعد ذلك أصبح واحدًا من أوائل الباحثين الذين قدموا دراسة التعبير الجيني للجينوم كاملاً لعلم النفس الاجتماعي. أدرك كول أن استجابة الجين المتواصلة في الزمن الحالي للمعلومات الواردة، هو المكان الذي تعمل فيه الحياة على العديد من التغيرات التي تحصل لنا. الفكرة اختزالية وتوسعية على حد سواء. نحن نتكون من خلايا، في مركز كل خلية مجموعة متشابكة ضيقة من الحمض النووي هي التي تكتب وتصدر الأوامر للخلية.
“نحن نعتقد أن أجسامنا عبارة عن هياكل بيولوجية مستقرة تعيش في العالم، ولكن تكون منفصلة عنه جذريًا. إننا كائنات حية منفردة عن العالم، ولكننا نمر من خلاله، ولكن ما نحن نتعلمه من العمليات الجزيئية المسؤولة عن عمل أجسامنا هو أننا أكثر مرونة بكثير مما كنا ندرك، وأن العالم هو الذي يعبر من خلالنا”.
قال لي كول ذلك على العشاء كنا قد التقينا في حرم جامعة كاليفورنيا وسرنا جنوبًا مسافة قليلة من خلال شمس أبريل المشرقة، إلى مطعم سوشي (فارغ تقريبًا) ، الآن وبينما هو يلوح عيدان الطعام على طبق من قنفذ البحر، والحبار، وسمك السريولا يقول “في كل يوم، عندما تموت خلايانا، علينا أن نستبدل 1-2% من وجودنا الجزيئي، نحن نبني باستمرار ونعيد هندسة خلايا جديدة؛ الدافع وراء ذلك التجديد هو الطبيعة الاحتمالية للتعبير الجيني (هذا هو ما تعنيه الخلية).” وأضاف وهو يلتقط بعض سمك السريولا: “الخلية هي آلة لتحويل التجربة إلى علم أحياء”.
في مطلع التسعينات عندما بدأ كول أبحاث علم النفس الاجتماعي كانت تكنولوجيا تقنية النسق المايكروي التي تحدد التغيرات في التعبير الجيني لا تزال في مراحلها الأولى المكلفة، وكانت تستخدم بشكل أساسي في علم المناعة والسرطان. فبدأ باستخدام أدوات علم الأوبئة -في الأساس- لدراسة كيف يعيش الناس حياتهم. بعض أوراقه الأولى ركزت على كيفية تأثير التجارب الاجتماعية على الرجال المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية. وفي دراسة عام 1996 تضمنت 80 رجلاً مثليين الجنس كانوا جميعاً يحملون فيروس نقص المناعة البشرية لكنهم عاشوا تسع سنوات في صحة جيدة ووجد كول وزملاؤه أن الرجال الذين يتكتمون عن كونهم مثليين خضعوا للفيروس بسهولة أكثر.
ثم وجدوا أن الرجال الوحيدين الذين يحملون الفيروس كانوا يمرضون بشكل أسرع أيضاً، بغض النظر عما إذا كانوا يتكتمون عن كونهم مثليين. ثم تبين أن الرجال المتكتمين الذين لا يحملون فيروس نقص المناعة البشرية اصيبوا بمرض السرطان وعدة أمراض معدية بمعدلات أعلى من معدلات الرجال الذين أعلنوا مثليتهم. في نفس الوقت تقريبًا، علماء النفس في جامعة (كارنيجي ميلون) كانوا قد انهوا دراسة ضبطت بشكل جيد تبين أن الأشخاص الذين يمتلكون علاقات اجتماعية أكثر ثراء أصيبوا بعدد أقل من نزلات البرد الشائعة. شيئاً ما يتعلق بالشعور بالتوتر أو الوحدة يعطل الجهاز المناعي -أحيانًا على نحو مميت.
ويقول كول “أنت محاصر من قبل فيروس سيقتلك، ولكن حقيقة كونك متوتر اجتماعيًا ومعزول يبدو أنها المسؤولة عن إطفاء الدفاعات الفيروسية الخاصة بك، ما الذي يحدث هناك؟”.
كان مصمماً على معرفة السبب. ولكن طرق البحث التي كانت في متناول اليد في ذلك الوقت يمكن أن تأخذه فقط إلى هذه المسافة: “علم الأوبئة لن يكذب عليك بالضبط، ولكن من الصعب أن تحصل على القصة كاملة من خلاله”. لفترة من الوقت حاول معرفة الأمور على المقاعد، مع الماسات والشرائح والفحوصات “كنت قد أخذت هرمون نورإبنفرين [هرمون توتر أساسي] وبخخته على بعض الخلايا المناعية المصابة (خلايا من نوع ت) وشاهدت الفيروس ينمو بشكل أسرع. هرمون نورإبنفرين كان يهدم الاستجابة المضادة للفيروسات. كان الاكتشاف رائعاً. علماء الفيروسات أحبوا ذلك. ولكنها ليست مرضية كإجابة كاملة، لأنه لا يفسر تماماً ما يحدث في العالم الحقيقي.
“يمكنك أن تجعل أي شيء يحدث تقريباً في أنبوب الاختبار. لكنني بحاجة إلى شيء آخر. لأنني وضعت نظرية وكنت احتاج إلى مكان لاختبارها فيه”.
في الجزء الثاني سيتم سرد التجارب التي انتقل لها كول وباحثون آخرون لإثبات نظرياتهم.
ترجمة: نورة العقيلي
Twitter: @NorahAQL
مراجعة: جهاد أبو الرب
Twitter: @jabulrob
المصدر:
اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية