“جيناتي تدفعني للجريمة!”

“جيناتي تدفعني للجريمة!”

14 أغسطس , 2014

جينات-جريمة

الجينات أم التنشئة؟ Nature VS Nurture

الجزء الثاني: “جيناتي تدفعني للجريمة!”

ناقشنا في المقال السابق نوعًا من أنواع السلوكيات وهي السلوكيات الغرائزية أو البدائية واتضح لنا بعضًا من القدرات العجيبة التي تستطيع جيناتنا القيام بها، ففي مقابل أن الجينات هي المسؤولة بشكل شبه كلي عن تشكيل الصفات الشكلية (Morphology) للكائن الحي كلون البشرة وعدد الأصابع، هي أيضاً قادرة على تشكيل أدمغتنا على نحو يسمح لنا التفكير بطريقة وليست أخرى مما ينعكس حتمًا على تصرفاتنا. في هذا المقال سوف نبحر بعيداً إلى سلوكيات معقدة تمثل حقيقة الأنا البشرية ومخرجات ما يصطلح عليه العقل أو وظائف الدماغ العليا، واعتقادنا الأولي هو أن الجينات أقل من أن تفرض سلطتها على تلك السلوكيات. كما سنناقش بعض القضايا الشائكة التي تترتب على تلك الحقائق.

حدث في فبراير ١٩٩١م أن أُدين أمريكي يدعى ستيفن موبلي بتورطه في جريمة قتل لمدير محل بيتزا اسمه جون كولنز، وصدر الحكم عليه بالإعدام. وجد محاموا موبلي بعد ذلك خيط نجاة قد ينقذه من حكم الإعدام وذلك بتقديمهم دفاعًا وراثيًا عنه، فقالوا أن موبلي ينحدر من عائلة عريقة في الانحراف والجريمة، ومن المحتمل أنه قتل كولنز لأن جيناته جعلته يفعل ذلك، فهو بالتالي غير مسؤول عن كونه آلة مبرمجة على القتل عن طريق الحتم الوراثي.

قد تبدو هذه القصة سخيفة وغير منطقية للوهلة الأولى لكن المتأمل عن كثب لحال بعض المجتمعات التي تتذيل ركب الحضارة والتقدم يجد أن مثل هذه القصة تتكرر باستمرار بوجوهٍ وصورٍ متباينة؛ ففي مقابل تسليم أولئك الأفراد بامتلاك إرادة حرة قد تكون السبيل إلى الجوهر الإنساني المنشود، نجد اعتقادات سائدة بألوان وأصناف أخرى من الحتمية قد تفوق في طغيانها الجبري الجينات والوراثة. فتغيب الإرادة الحرة على سبيل التمثيل وليس الحصر خلف أستار الحتمية التصوفية كمن يبرر فشله في دراسته أو في حياته الزوجية بالنصيب والقدر، أو كالذي يجد في السحر والعين ملاذًا له لينتصر لذاته ويرفع عن نفسه التكليف، ونشاهد أيضًا ذلك السياسي الفاسد الذي يبرر فساده بفساد من هم أعلى منه أو أن المجتمع تعمه الفوضى وغير قابل للإصلاح.

تُبرز حقيقة أن السلوك يملك مكونات جينية الكثير من الجدل في الوسط العام وقد يعود ذلك إلى التاريخ المأساوي لثمار هذه الفكرة. حيث تمثل فكرة تحسين النسل الذي أقيمت على أساس هذه الحقيقة جانبًا مظلمًا في علم السلوكيات، والذي ابتدأ على يد عالم الأحياء فرانسيس جالتون وقد يكون متأثرًا بأفكار ابن عمه عالم الطبيعيات الأشهر تشارلز داروين، وقد ألَف جالتون كتابًا يشرح فيه فكرته عن تحسين النسل البشري متضمنًا كلا الجانبين الجسدي والسلوكي عن طريق التزاوج الأمثل بين الأفراد، وأجرى أيضاً تجارب على التوائم المتطابقين وذلك بتنشئتهم في بيئات مختلفة بحيث لو وُجد أن سلوكيات كلا الطفلين ما زالت متطابقة برغم فارق بيئات التنشئة المختلفة فهذا يعتبر دليل على سقوط مكوّن التنشئة كعامل ذا أهمية في تشكيل السلوك البشري. بلغت فكرة تحسين النسل بعد ذلك تطرفًا مفرطًا خلال حكم النازيين في ألمانيا ورفضت بعد ذلك لكثرة القضايا الأخلاقية والإنسانية التي أثيرت بسببها.

إن التشبيه المناسب لعمل الجينات في تشكيل السلوك هو أنها تعمل كإطار أو سقالة لتسمح بعد ذلك للتنشئة والبيئة بتشييد الإدراك والتفكير والذاكرة ومن ثم ينشأ السلوك بأنواعه المختلفة. تلك السقالة أو البنية الأولية للمخ التي تتكفل الجينات بتشكيلها ليست سليمة على الدوام فقد تتسبب طفرة جينية  واحدة إلى خلل في الشفرة الوراثية يؤدي بدوره إلى خلل في البنية الأولية للمخ تتسبب في مشكلات إدراكية وسلوكية كبيرة. وعلى الرغم من أن مثل تلك الأمراض والمسماه باعتلالات الجين الواحد (single-gene disorders) نادرة جدًا مقارنة بالأمراض الأخرى التي تنشأ بسبب ظروف تنشئه معينة، إلا أننا نستطيع من خلالها أن نستشف الدور البالغ الذي تلعبه جيناتنا في تشكيل السلوك. تأتي الأدلة القوية على ظاهرة اعتلالات الجين الواحد من دراسات مكثفة أجريت على سلوكيات التزاوج والتودّد عند ذبابة الفاكهة (Drosophila melanogaster)، حيث وجد جين يسمى (fruitless gene OR fru) يشفّر لبروتين يعمل كعامل استنساخ داخل الخلية، وعند حدوث طفرة ممرضة لهذا الجين تفقد ذبابة الفاكهة قدرتها على التزاوج فيما بينها. لكن عند الانتقال إلى كائنات حية أعلى ذات سلوكيات معقدة كالإنسان فإن مفهوم الجين الواحد للسلوك قد يبدو مضلّلاً بعض الشيء, كالقول  بأن هناك جين للذكاء أو جين للإدمان على الكحول  أو جين يحدد الميول الجنسية ولذلك نشأ فرع جديد في علم السلوكيات يعرف بالجينوم السلوكي (Behavioral Genomics) بدلاً من الجينات السلوكية (Behavioral Genetics) أي أن السلوكيات لا تختزل في جين واحد بل أكثر من ذلك أكثر بكثير. فعلى سبيل المثال مرض التوحد الذي يتمثل في ضعف المهارات الاجتماعية بالإضافة إلى الإعاقة الذهنية يرتبط به حسب دراسات متفرقة على أكثر من ٢٠ جيناً تتفاوت وظائفها بين وظائف للوصلات العصبية ووظائف التحام الخلايا العصبية ووظائف تنظيم النشاط العصبي. وفي هذا الصدد نعود لنطرح قضية جين الجريمة مرة أخرى، ففي دراسة أجريت على عينة مكونة من ٤٠٠٠ شخص وباستخدام منهجية دراسة التوائم وجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يتصفون بالإجرام والعنف في كافة مراحلهم العمرية تلعب الجينات دورًا أكبر من التنشئة في تشكيل سلوكهم، أما عند الأشخاص الذين تقتصر عدوانيتهم على مرحلة عمرية محددة كالمراهقة فإن البيئة والتنشئة هي من يلعب دورًا أكبر. تقول بارنيز وهي الأستاذ المساعد والمتخصصة في علم الجريمة “أنه لا يوجد هناك جين لسلوك الجريمة بل على الأرجح هناك المئات أو الآلاف من الجينات التي ترتبط بهذا السلوك وتزيد من فرصة كون الشخص مجرم وذو سلوك عدائي ولو بنسبة ضئيلة قد تصل إلى ١٪ لكنه يبقى أثرًا جينيًا”, وأضيف بأن هناك أمور وعادات مجتمعية كالموعظة الدينية أو التربية الحسنة من الوالدين قد تلغي مثل ذلك الأثر بحيث لا تؤثر النزعة الوراثية الإجرامية على تشكيل سلوك الفرد.

768r98990

على غرار كتاب جالتون الذي أسس فيه لمفهوم تحسين النوع البشري القائم على التزاوج الأمثل، فقد ألّف ألدوس هكسلي الروائي الإنجليزي الشهير رواية خيال علمي أسماها “عالم جديد شجاع” (A Brave New World) يطرح فيها فكرة لتحسين النوع البشري حيث ينشأ عالمًا موحّدًا لا وجود للفردية فيه، ونظامًا طبقيًا يضمن مكانة خاصة لكل الأفراد يتوجب عليهم قبولها بإذعان، ويمكن تشبيهه إلى حدٍ ما بمملكة النحل، لكن الغريب في الأمر وحسب ما طرحه هكسلي هو أن كل تلك الحتميات الاجتماعية والسلوكية لا تتم عن طريق الوراثة والتزاوج الأمثل، بل عن طريق ظروف تنشئة قياسية أو ما يمكن تسميته غسيل المخ, وبكلمات أخرى فإن العالم الجديد الشجاع يكفل حتمية سلوكية للأفراد لكن ذلك لا يحدث بواسطة الجينات -كما اعتدنا- بل بواسطة البيئة والتنشئة. بالرغم من أن هذه الرواية مجرد قصة من وحي خيال هكسلي إلا أنها قد تعطينا تصورًا مهمًا عن مدى قوة مكون التنشئة في بناء السلوك البشري, ولتصور أعمق دعونا نعود قرنين من الزمن إلى الوراء ونبحر إلى جزر تييرا ديل فويجو (Tierra Del Fuego)  أقصى جنوب أمريكا الجنوبية لنقابل رجل الفويجو (fuegian man) أو الرجل البدائي, وبالرغم من أن مظهره الجسدي كان يشبه إلى حد ما الصينيين والهنود إلا أنه كان يبدو في  حالة مزرية جدًا, ولنقتبس ما دونه تشارلز داروين بعد أن قابل هذا الرجل: ” لقد بدى ذلك المشهد الأكثر حيرة وغرابة, لم أكن لأصدق هذا الاختلاف الشاسع بين الرجل البدائي ونظيره المتحضر, إنه أكثر بكثير مما قد يكون بين الحيوانات البرية والأخرى المروضة, فالإنسان يملك قوة كبيرة كامنة للتحسين”, ويقول أيضًا: “لقد وجدنا المكان الذي كان يتخذه مسكنًا له, لقد كان لا يوفر حماية أكثر مما توفره مساكن الأرانب البرية!”. إن رجل الفويجو يرسم لنا الصورة الأمثل التي يغيب فيها مكون التنشئة أو يتقلص إلى نسبة ضئيلة جدًا وتبقى الجينات وحدها هي من يشكل السلوك, مما يعكس حقيقة أن التنشئة هي من يعطي الصورة النموذجية للسلوك البشري بل وبدون التنشئة يصبح الإنسان مجرد حيوان بدائي لا يميزه عن بقية الحيوانات إلا بضع عادات سلوكية وغرائزية كما عبر عن ذلك داروين.

بعد هذا الطرح أظن أن البعض قد فطن إلى تساؤل في غاية الأهمية، فيقول صديقنا الفطن المتسائل تعليقاً على ما سبق: “وأين هي الإرادة الحرة في كل ذلك؟! فسواءً اكتسب المجرم سلوكه الإجرامي عن طريق الجينات أو عن طريق البيئة والتنشئة فإن كلا الطريقين لا يوفّران الإرادة الحرة التي نحلم بها؛ فأنا لم أختر جيناتي ولم أختر أيضًا أن أعيش في ذلك الحي سيء السمعة أو أن أتربى في كنف والدين سيئا التربية والسلوك!!” نقول لصديقنا أحسنت لقد وقعت على جدلية عمرها أكثر من ٢٠٠٠ سنة، وطالما أرهقت عقول الفلاسفة والعلماء طوال هذه المدة، ولا أحسب أنني سأتصدى لتلك المعضلة من خلال فقرة في مقال متواضع كهذا، بل لن تزيدك تحقيقاتي إلا حيرةً إلى حيرتك، فخذ مثلاً: إنما يعتريك الآن من شعور طاغي بامتلاك إرادة حرة هو نفسه ما يشعر به المجانين وأصحاب العاهات العقلية، فهم يعتقدون أنهم مختارين ومريدين لكل سلوكياتهم مع أنه لا أحد يختلف على كونهم ليسوا كذلك، وهذا ما دفع العديد من العلماء إلى القول بأن الإرادة الحرة وهم تصنعه أدمغتنا حتى يتسنى لنا ممارسة لعبة الأخلاق!.

قبل مناقشة هذه القضية يجب أولا التعرض إلى بعض المباحث المعرفية ذات العلاقة. إن العلم الطبيعي والذي مبحثه الطبيعة المادية للوجود يبحث في العلل الفاعلة وليس العلل الغائية للموجودات, ولنفرق بينهما دعونا نستحضر المثال الذي طرحه الامام أبو حامد الغزالي وهو أن أي كتاب يملك علل, منها العلة الفاعلة وهي الحبر والورق الذي صنع منه هذا الكتاب وهذه العلة هي ما يمكن للمنهج العلمي التجريبي الكشف عنه, أما العلة الغائية وهي الغرض الذي كتب الكاتب هذا الكتاب لأجله فبالتأكيد أننا لا نستطيع الكشف عن مثل هذه العلل عن طريق تحليل الكتاب كيميائياً أو وضع معادلات فيزيائية خاصة له, وهذا يجعل القول بأن الإرادة الحرة وهم لأن التجربة لم تثبتها وهم أيضاً.

 يتوجب على العلم الطبيعي أيضاً القبول بالحتمية السببية في كل تفسيراته, وهذا يعني بحسب تعريف كلود برنانرد أن شروط كل ظاهرة محدده تحديدًا مسبقًا ومطلقًا, وهذا ينطبق أيضًا على السلوك البشري كظاهرة علمية قابلة للبحث, ولذا فإنه وفي أحسن الأحوال يتوجب علينا القبول بحتمية السلوك, ولكن هل القول بالحتمية يتعارض مع مفهوم الإرادة الحرة؟ إن هذا السؤال يمثل جوهر هذه الجدلية.

8888888888898977777777

يجب أولاً أن نعرف أن حتمية أمرٍ ما لا تعني أنه قابل للتنبؤ في كل الأحوال كما كان يعتقد لابلاس, -على الأقل- من الناحية التطبيقية لا التنظيرية، فمثلاً نحن ندرك أن المناخ يتسبب في تكوينه عوامل عديدة يمكن قياسها والتنبؤ بنتائجها مفردةً، ويمكننا أيضاً معرفة الصورة العامة للمناخ كمعرفتنا بأن الشتاء سيكون أبرد من الصيف لكن لا يمكننا أبداً التنبؤ بحالة الطقس في يوم عيد رأس السنة وهل ستتساقط الثلوج أم لا! , وهذا ما اصطلح عليه الفيزيائيون نظرية الشواش  (Theory Chaos) أو تأثير الفراشة (Butterfly Effect), أي أن رفرفة جناحي  فراشة في الصين قادرة على إحداث إعصار في تكساس, والمذهل أكثر من ذلك هو أن نفس النظرية يمكن تطبيقها على المخ البشري, لكن بدلاً من استخدام مكونات سرعة الرياح ودرجة الحرارة ونسبة الرطوبة فإننا نستخدم مكونات القابلية الوراثية والخلفية الثقافية والتعليم والبيئة كعوامل مسببة في إحداث السلوك، وبالتالي فإن السلوك البشري يعبر عن منظومة شواشية بمعنى أن أحداثاً صغيرة كرؤيتك لفتاة جميلة مثلًا قادرة على إحداث نتائج كبيرة وغير محتملة كالزواج منها وتكوين أسرة، وبهذا نستنتج أن السلوك البشري غير قابل للتنبؤ، ولذا ومن ناحية تطبيقية وبالنسبة لمراقب خارجي لا يستطيع التنبؤ بسلوكنا – في حالة ما- فإنه لا تعارض بين قول هذا المراقب بامتلاكنا إرادة حرة مع الحتمية السببية التي سلّمنا بها مسبقاً.

إن نظرية الشواش قد تكون نافذة ضيقة نخرج منها من العالم المادي الحتمي إلى عالم آخر مجرد يجعل من أوهامنا حقيقة ولا يجعل لموبلي وأمثاله من المجرمين مفرًا من العدالة والقانون الأخلاقي.

 

 

المراجع:


:الكتب

  • Matt Ridley                               Nature Via Nurture
  • الجينوم                                                   Matt Ridley            ترجمة د.مصطفى إبراهيم فهمي
  • منهج الاستقراء العلمي.                                د.حسين علي

 

المقالات:

 

Free will and chaos theory:

 

شارك المقال

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!