كيمياء الأدوية النفسية.

كيمياء الأدوية النفسية.

16 ديسمبر , 2015

الادوية النفسية

بعد أن تعرّف العالم “سيجموند فرويد” – في قسم الأمراض النفسية الذي أسّسه العالم “جان مارتن شاركو”– على مفهوم الهستيريا وتأثير التنويم المغناطيسي مع “بيير جانيت”، وبعد أن تردّد على مدرستيْ “هيبولت برنهايم” و “أمبرواز ليبولد” في مدينة نانسي الفرنسية، تحرر فرويد بعد عودته إلى مدينة فيينا مما تعلمه وابتكر أسلوباً خاصاً في استكشاف العقل الباطن عُرف فيما بعد بـ: “التحليل النفسي”. أما تلميذاه: “ألفريد إدلر” و “كارل جوستاف يونج” فقد انفصلا عنه، لكن من دون قطيعة أو جفوة. وأمام صعود النازية اضطر فرويد إلى مغادرة فيينا و اللجوء إلى لندن سنة 1938م حيث مات بها بعد ذلك بعام واحد فقط.

كان فرويد يُجبر مرضاه المصابين بأمراضٍ عقلية على أن ينزعوا الذكريات المنطبعة داخلهم من طفولتهم ومن سن مراهقتهم رغماً عنهم؛ فهذه الذكريات البعيدة و المنسية كذباً وادعاءً هي المسؤولة، وفق ما يزعم فرويد، عن إصابتهم بمرض الذهان (Psychose) أو العصاب (Neurosis). وربط فرويد بين هذه الأحداث البعيدة و الكبت أو التحرر الجيني لمرضاه، ولم يدّعي بأنه يعالج لأن المريض كان يؤسس بنفسه العلاقة بين عقله الباطن الذي تشكل منذ سنوات بعيدة ومصابه الحالي، وبالتالي يتحرر منه.

وشهد التحليل النفسي انتشارا واسعاً في الخمسينات، خاصة في الولايات المتحدة، حيث يقتضي أقل قدر من القلق وأقل اضطراب سلوكي اللجوء إلى محلل نفسي يقوم باستجواب المريض المحدد بشكل تقليدي فوق أريكة (أصبحت هذه الأريكة رمزاً للتحليل النفسي) ويلعب دور المرشد الذي يساعد المريض في الإعلان عن سلوكه العقلي والاجتماعي والجنسي. وتشكل هذه الجلسات المتكررة بالنسبة للمحلل النفسي – طبيباً كان أو غير طبيب – مصدراً مهماً للداخل، أما في أوروبا فقد كانت هذه الموجة أكثر اعتدالاً.

وعلى خط موازٍ للتحليل النفسي، طوّرت نظرة طبية تعرف بالنفسية-الجسدية (Psychosomatique) حيث توصّلت إلى إثبات أنّ الاضطرابات العقلية الخالصة يمكنها أن تؤدي إلى اضطرابات عضوية مثل: القرحة وربما تلعب دوراً في تكوين السرطان. وهناك الكثير من الأعراض الوظيفية مثل: الخفقان، الصداع النصفي و الإمساك والتي لا تكتشف فيها الفحوص العلمية أي عيوب موضوعية، بينما هي في الأصل ذات علاقة بالاضطرابات العقلية.

والآن لا يشكل الطب النفسي – الجسدي فرعاً مستقلاً بذاته، إلا أنه يُذكّر الأطباء بأنّ الفصل بين الروح و الجسد (العقل والجسد) هو فصل نفسي؛ إذ إنّ الإنسان هو وحدة واحدة وإنّ كل مرض لا يمكن علاجه إلا إذا تم التوجه إلى الإنسان ككل. هذه القاعدة الحكيمة كان قد وضعها الإغريق القدامى.

وفي إطار العلاقة بين الطبيب والمريض الذي يعاني اضطرابات عضوية وعقلية، شدّد الطبيب “مييل بالان” على الدور العلاجي الذي يؤثر به الطبيب على المريض من دون قصد وبمجرد حضوره فقط.

فالشخصيات التبادلية لإثنين من المحاورين تلعب إذاً دوراً أساسياً، وبتطبيق هذه الظواهر التي مازالت الدراسات فيها غامضة، فإنه يمكن تفسير التأثير الإرضائي (Placebo) للمواد الكيميائية الخالية من أي فاعلية دوائية، ويمتلك المريض قناعةً بأنّ هذه المادة التي لا قيمة لها تخفف من آلامه.

ففي الدراسات الدوائية التي تقارن بين تأثير مادة ما نأمل في أن تكون نافعة.

ومن أجل رفع كفاءة الأطباء، اقترح بالان على زملائه أن يطرحوا على أنفسهم أسئلةً حول سلوكياتهم الخاصة في مواجهة حالة محددة، في “مجموعات بالان”، حيث يقوم الطبيب أمام أطباء آخرين بسرد وقائع مقابلة نموذجية مع طبيب استشاري ويقوم بتحليل نفسه أمام أقرانه الذين يقومون بانتقاده، ويسألونه حول ما يمكن أن يكون هو سلوكية نفسه. وتهدف هذه الجلسات إلى تحسين التأثير العلاجي لعلاقة الطبيب والمريض ببعض. وتحت تأثير التحليل النفسي، انتشر مفهوم العلاج السلوكي-المعرفيCognitive) behavioral therapy) حيث يقوم المرضى الجالسون معاً – وبحضور أحد المشرفين– برواية خبراتهم العقلية من أجل فهمها فهماً موضوعياً، وربما من أجل السيطرة عليها.

وتنتمي هذه النوعية من الإجتماعات التي ظهرت وانتشرت في البلاد الأنجلوساكسونية على وجه الخصوص (مثل: ألمانيا وهولندا والدنمارك)، إلى الإعترافات الجماعية التي تمارس بعض القوانين البروتستانية في الديانة المسيحية. وقد أثبتت هذه الطريقة نجاحها في كثير من الأحيان، فقد أسفرت هذه الإجتماعات عن خدمات جليلة في حلقات علاج إدمان الكحول؛ إذ تساعد المدمنين السابقين في الحفاظ على امتناعهم عن التعاطي. أما العلاج الكيميائي للأمراض العقلية فقد ولد في سنة 1952م في باريس، عندما اكتشف كل من: “جان ديلاي” و “بيير دينيكر” التأثيرات المزاجية لعقار الكلوربرومازين (Chlorpromazine) والذي قام “هنري لابوري” بتجربته كعقّار ممهد للتخدير والتبريد الصناعي الذي يطبّقه الجراحون في بعض العمليات الجراحية. هكذا وُلد علم العقاقير النفسية ((Psychopharmacology

الذي حمل من الإمكانات العلاجية وما يتبع ذلك من دراسة وظائف المخ ما لايمكن حصره؛ ففي خلال ثلاثين عاماً طهرت مئات عديدة من المستحضرات الدوائية التي يمكنها أن تؤثر في الحالات العقلية المختلفة. أما بالنسبة إلى المهدئات فمثلها عائلة البنزويديازيبين الكبيرة، وهي مجموعة من العقاقير المنشطة و المهدئة في الوقت ذاته، إلا أن تعاطيها لفترة طويلة يقود إلى الإعتياد و الإعتماد عليها، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الإدمان. وقد ظهرت مجموعة اخرى من مضادات الاكتئاب في سنة 1957م في أثناء دراسة مجموعات مختلفة من مضادات الهستامين. وتعالج هذه المواد تأثيرات بعض الحالات الإكتئابية الهيئة و العادية و التي تدخل في إطار الوساوس و المخاوف الصغيرة، إلا أنها من الممكن أن تؤدي إلى الانتحار. وقد رُوجت أملاح الليثيوم (Lithium salts) في الأسواق منذ عام 1969م، وهي أدوية “مزاجية” كان لها دورٌ كبير في علاج حالات الهوس الإكتئابي حيث ينتقل الشخص المريض من أقصى الهياج إلى البلادة.

وبعد عام 1963م، استخدمت بعض الأدوية المضادة للذهان و التي تنتمي كيميائياً إلى عائلة الدوبامين (Dopamine) الذي يتوافق مع حالات العصاب الكبرى. وازداد عدد هذه الأدوية بسرعة كبيرة، وبتعاطي هذه الأدوية لفترات طويلة تصل إلى عدة سنوات تحت الإشراف الطبي، تحسنت اضطرابات عقلية شديدة التنوع واختفت نوبات الإكتئاب العابرة مما سمح لمرضى الفصام ومن حولهم أن يعيشوا حياة تكاد تكون طبيعية. غيرت هذه الأدوية من طبيعة المرض العقلي الذي يعايشه المريض ويعانيه، وتغيرت النظرة القديمة للجنون الذي لا شقاء منه والذي أصبح شبه مقبول في المجتمع الذي أصبح يتعامل مع المرض النفسي باعتباره مرضاً عارضاً ويمكن الشفاء منه، مثل غيره من الأمراض. ولم يعد لزاماً على المرضى أن يقضوا حياتهم نزلاء مستشفيات الصحة العقلية والنفسية. حقاً لقد استمر الخداع عندما تحولت مستشفيات المجانين في فرنسا إلى مستشفيات نفسية تسمى اليوم ” المراكز الطبية المتخصصة” من أجل إخفاء مهمتها، إلا أنها أصبحت أكثر إنسانية. فقد اختفى قميص المجانين الجبري وحل طاقم تمريض متخصص في التعامل مع الأمراض النفسية محل المشرفين المتعجرفين. كما أصبحت إقامة المرضى في المستشفيات أقصر بكثير مما سبق وألغيت المئات من أسرة المجانين مثلما حدث قبل ذلك بعشرين عاماً في مصحات الدرن. وبإستخدام بعض الأقراص يومياً مع الزيارات الدورية للطبيب، أصبح بإمكان المريض العقلي أن يعيش حياة اجتماعية تكاد تكون طبيعية مثلما كان الحال مع مرضى الدرن. توضح هذه الخبرات الطبية و الدوائية لتأثير الكيمياء في الوظائف العقلية، الدور الذي تلعبه الموصلات الكيميائية على مستوى المخ، وهو ما كان معروفاً قبل ذلك بالنسبة للجهاز العصبي الطرفي، كما يساهم اكتشاف الهرمونات التي يفرزها المخ في ظهور وتطور العلوم العصبية، التي أصبحت تمتلك نظرية مادية كيميائية جديدة. فكل سلوكياتنا وكل قراراتنا تتم عبر جزيئات كيميائية؛ ولم يعد هناك مايفصل عقل الإنسان عن عقل الحيوان سوى وجود بعض البروتينات المميزة ولم يعد هناك مايميز بين الروح والجسد.

المصدر : مجلة الكيمياء – الجمعية الكيميائية السعودية – العدد 31

شارك المقال

اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!