ما سبب وجود الملل

ما سبب وجود الملل

1 سبتمبر , 2020

ما وظيفة الملل في حياتنا ولماذا ندرسه؟

الملل/boring

لا تخلو حياة أحدٍ من الملل، لكن هل لهذا الملل فائدة وما هي أضرار الملل على الجانب النفسي والمعنوي…

عندما تُسأل في مناسبة اجتماعية عن ماهية عملك وتجيب بأنك برفسور في علم النفس تنطفأ فجأة شمعة المحادثة معك ويتجنبك الجميع غالباً بسبب شعور من حولك بأنك في وضع فرويدي تحليلي طوال الوقت وأن كل ما يقال أمامك سيُحلل ويفصل حتى تصل إلى تشخيص كامل لجميع الأمراض المختلفة التي يعاني منها محدثك. ولكن إن كان (جون) أخصائي نفسي سريري فإن (جيمس) ليس كذلك ومع هذا فإن جون لا يحلل نفسيا كل من يقابله بل على العكس.

عندما يعرف الناس أن تخصصك الفعلي في مجال البحث تعود الحياة للمحادثة من خلال السؤال المعتاد ” ماذا تدرس؟” فتجيب بأنك تدرس “الملل” فتحصل على ردة فعل تعجبية وكأن دراسة الملل لا يمكن اعتبارها مهنة جادة.
 نعم الملل جزء من حياة أي شخص وليس له عواقب حقيقية ولكن البحث في مجال الملل مهنة جادة مارسناها واشتغلنا فيها منذ ما يقارب العقدين من الزمن.

اُكتشف هذا المجال بطرق مختلفة، جون من خلال استشاراته مع الشباب الذين يشكون من الملل والشعور بالفشل في مشاريع الحياة، وجيمس من خلال شعوره بالملل ورغبته بفهمه والتحكم به ما أدى به للعمل بمقولة “الطبيب معالج نفسه” إلى جانب تشخيصه الملل لدى الشباب الذين يعانون من إصابات المخ المرضية وهو ما شجع على البحث ودراسة الارتباطات العصبية للملل.
تعجز هذه الأسباب المشبعة لفضولنا حول انتشار الشعور بالملل عن تسليط الضوء على أهمية الموضوع برمته. ما سبب وجود الملل؟ وما السبب وراء أهميته؟

من السهل الإجابة على السؤال الثاني بأن الملل تتتبعي وأفضل مثال على ذلك تجربتنا الحالية مع فيروس كورونا حيث تفشى شعور الملل نتيجة لزوم المنزل والخضوع لأنظمة مقيدة كالتباعد الجسدي وغيرها. ولكن وإن زالت هذه المحنة فالملل لن يزول للأبد بوجود وباء أو عدمه.

من المعروف أن من يعانون من الملل لفترات متكررة وبشكل حاد (الملولين) يواجهون نتائج سلبية. مثل ضعف الصحة الذهنية ومن ذلك زيادة معدلات الاكتئاب والقلق والعدوانية بالإضافة إلى مشاكل إدمان الكحول والمخدرات. وقد صدّقت دراسة وبائية احتمالية الموت من الملل حيث اتضح زيادة احتمالية الموت من أمراض القلب بين الموظفين الحكوميين في بريطانيا الذين اظهروا معدلات عالية من الملل في وظائفهم بعد عقود من الزمن.

نعلم جميعاً أن الملل عدو التعلم فلطالما ارتبط بتشتت الانتباه وأظهر الباحثون ارتباطه بضعف الأداء في المجال الأكاديمي. ويعد الملل للمراهقين بالذات عامل خطر للوقوع بإدمان المخدرات أو التصرفات الجنسية الخطرة أو التخريب.
 الملل (أو على الأصح نزعة الشخص ليصبح ملولاً) أمر ذو شأن مما يجعل فهم هذا الشعور ونتائجه بشكل عميق أمر مهم للغاية.

بعيدً عن المواقف الحرجة حيث يصبح الملل خطيراً، يعد شعور الملل بذاته تجربة إنسانية واسعة الانتشار ولم يأخذ هذا الشعور حقه من البحث والدراسة. وهذا ما يعيدنا للسؤال الذي يطرحه عنوان هذا المقال: ما سبب وجود الملل؟

يمكن طرح هذا السؤال بصيغة أخرى: ما سبب اختيار قوى تطورية كالبشر لخوض شعور غير مريح كالملل؟ وهذا استجواب عن مهمة الملل: ما الغاية منه؟
 يقترح الفيلسوف المدون لمجلة سيكولوجي توداي أندرياس إلبيدورو أن الملل ” دفعة نحو الإنجاز”. تشعر في هذه اللحظة أن عقلك متفرغ تماماً وهذا يورث حالة من الانزعاج الشديد. يفضل كل منا أن يكون في حالة من الاتصال مع العالم لإظهار هويته وإمكاناته وهذا ما يجعل الملل أداة نداء للعمل لتحقيق هذا الهدف.

ولكن ماذا عن الحيوانات؟ إذا كان الملل مختار فعلاً للقوى التطورية فهذا يعني وجوده لدى الحيوانات. في دراسة أجريت عام 2012 (كررت جزئياً عام 2017)، اختبرت ريبيكا ميغر وجورجيا ميسون احتمالية شعور ثعالب الماء بالملل من خلال تقسيم العينة إلى مجموعتين، مجموعة وضعت في أقفاص عادية تكاد تنعدم فيها فرصة الانشغال بسلوكيات هادفة، بينما وضعت الموجوعة الثانية في أقفاص فيها فرص كثيرة للقيام بأعمال مختلفة. الخدعة في هذه الدراسة تكمن في أن تعريض كلا المجموعتين لمحفز ممتع (فرشاة الأسنان لثعالب الماء تقوم مقام ضوء الليزر للقطط) ومحفز منفر (رائحة بول مفترس) وأدوات حيادية (علبة ماء) سيمكن الباحثين من التفريق بين حالات الحيوان المختلفة.

سيُظهر الحيوان المكتئب اهتماماً بسيطاً بالمحفز الممتع، بينما يظهر الحيوان اللامبالي عدم اهتمام بأي من المحفزات، أما الحيوان الذي يشعر بالملل فسينخرط بما هو متوفر أياً كان نتيجة يأسه للانشغال بأي شيء وهذا بالضبط ما لاحظه الباحثون. الحيوانات من المجموعة الأولى كانت أسرع في التفاعل مع جميع أنواع المحفزات بل انها استهلكت قدراً أكبر من الأطعمة مقارنة بحيوانات المجموعة الثانية وهذا السلوك ملاحظ لدى البشر (الانخراط في الأكل عن الشعور بالملل). تبحث الحيوانات عند شعورها بالملل عن أي وسيلة تقودها للقيام بعمل.

ذكرنا في كتابنا (خارج الجمجمة: الجانب النفسي للملل) ادعاءً قوياً حول الملل، نعم الملل شعور غير مريح ويحدث غالباً في حالات رتيبة وعديمة المعنى ولكن الأهم من هذا كله أن الملل يرسل إشارات تنبهنا لتقاعسنا عن العمل كأفراد فعالين في هذا العالم وأننا لا نستغل مهاراتنا ومواهبنا بطريقة تشعرنا بتقديمنا أفضل ما لدينا. نسعى في أسوأ حالاتنا خلف مراهم مؤقتة لا ىعود علينا بالنفع في الغالب كالانخراط في تصفح الانترنت أو الاسراف في شرب الكحول بينما يمكننا استخدام الملل في أفضل حالاتنا كأداة للتفكر في أهم الأمور بالنسبة لنا. لا يعني هذا مواجهة تحديات تقضي على كل المشاكل الكبيرة بل المقصود إيجاد شيء بسيط يعني لنا ويضيف لحياتنا ويظهر الطرق المختلفة التي بمكن من خلالها ان نساهم من أجل العالم.

بينما نكتب هذا المقال، قررت أجزاء من أمريكا الشمالية رفع الحظر بعد أسابيع من العزل بسبب جائحة كورونا، واتضح من خلال هذا الوقت العصيب أن القيود على أعمالنا الطبيعية ورّثت أرضاّ خصبة للملل. ومن المؤكد لنا أن سلب شعورنا بإدارة حياتنا هو المولد للملل. نريد أن نكون المقررين لأفعالنا واختياراتنا، متى ما سلب منا القرار استحكم الملل.

علمتنا هذه المحنة أن الملل يجبرنا على التركيز على المهم. وعلى الرغم من صعوبة إشباع رغباتنا بأن نكون فعالين أثناء هذه الجائحة إلا أن التفكر فيما نريده حقاً يستحق كل جهودنا.

انصب تركيزنا في البداية على الملل ولكننا مهتمون أيضاً بمضادة وهو: الانشغال.
إذا كان الملل يمثل الشعور الكريه بفشلنا في استغلال مهاراتنا ومواهبنا فإن سؤالنا التالي سيكون: كيف نتشارك وننشغل مع العالم؟ لا يوجد جواب محدد لهذا السؤال من وجهة نظرنا فالانشغال -في هذا السياق- يشبه السعادة من ناحية عجزنا عن تحديد مسبباتها واختلافها من شخص لآخر ولكن نتائج هذا البحث توجهنا نحو المسار الصحيح.

لا تقتصر هذه المدونة على استكشاف أسرار وعمق الملل بل تتعداه إلى الخوض في الطرق النافعة المختلفة التي يمكننا من خلالها الاندماج والعمل مع العالم ابتداءً من احتواء الفضول إلى التأمل الواعي والاسترخاء. نأمل أن نتوصل من خلال هذه المدونة إلى النقطة المباركة من الإدراك البشري وهو (العقل المشغول).

المصدر:https://www.psychologytoday.com

ترجمة: غادة اللحيدان

تويتر: @ghadoo7

مراجعة: عبدالرحمن نصرالدين. 


تويتر: @abdonasr77


اترك تعليقاً

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!