التنشئة أم الجينات؟! “الغريزة “

التنشئة أم الجينات؟! “الغريزة “

20 مارس , 2014

التنشئة

نحن نرث لون عِرقنا من والديْنا، أيضاً نرث لون الشعر وطول القامة وحجم العضلات، لكن هل فعلاً نرث سلوكنا وتصرفاتنا من والديْنا؟ ، هل إذا كان الأب عدواني فبالضرورة يكون أبناؤه عدوانيين؟، كيف نفسّر التقام صغار الثدييات لأثداء أمهاتها من دون تعليم مسبق؟ ، كيف تبني الطيور أعشاشها، ولماذا تزحف صغار السلاحف مباشرة بعد تفقيسها ناحية المحيط؟! ، ما موقف الإرادة الحرّة أمام حتمية البيولوجيا والجينات؟ وهل فعلاً نملك تلك الإرادة؟! ، هل سيصبح علم النفس يوماً ما أضحوكة ودجل أمام التقدم الهائل لعلوم المخ والأعصاب والجينات , وسيرفع المرضى النفسيون دعاوى تعويض ضد معالجيهم النفسيين كما فعلت سيدة أمريكية عام ١٩٩٥م ضد طبيبها النفسي بعد أن تحسّنت حالتها خلال ثلاثة أسابيع من تعاطيها للـ”بروزاك” ؟!
كل تلك الأسئلة وغيرها ما زالت مطروحة أمام العلم اليوم ، وسوف نقوم بالإجابة على بعضها في هذا المقال تحت العنوان الفرعي “الغريزة” والبعض الآخر سنجيب عنه في باقي سلسلة المقالات القادمة تحت نفس الموضوع بإذن الله.
مفارقة التنشئة أم الطبيعة (الجينات) من المفارقات التي أنهكت عقول الفلاسفة والعلماء منذ زمن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، والمقصود بهذه المفارقة هو التساؤل عن المصدر الذي نستقي منه سلوكنا هل هي التنشئة والتعلّم ؟ هذا يقتضي أن الإنسان يخرج إلى الدنيا بدون أي معرفة مسبقة وخطوط توافق بينه وبين البيئة ويبدأ بالتعلّم ليكتسب سلوكه عن طريق المحاكاة والتجربة، والخيار الآخر هو أن المسؤول الأول والأخير عن تحديد سلوكنا هي الطبيعة أو الجينات وكما هو معروف فالجين مركب كيميائي غير واعي وهذا الخيار يقتضي أن الإنسان لا يملك إرادة حرة وحرية للاختيار وكل سلوكنا وشخصياتنا تم تحديدها قبل أن نظهر إلى الدنيا بكثير. في عمق هذا الجدل تمثل الغريزة السلاح الأقوى لدى مؤيدي اكتساب السلوك عن طريق الجينات ، ويُستدل على ذلك بمشاهدات كثيرة من الطبيعة لكائنات حية تستقي سلوكها ذاتياً من دون تعلّم مسبق بالإضافة إلى صغار كائنات حية أخرى تنفصل عن أمهاتها مبكراً بعد ولادتها وهذا ينفي يقينًا أي فرصة لاكتساب الصغار سلوكهم عن طريق مشاهدة ومحاكاة سلوك الأم ، ومن الأمثلة والتجارب الملاحظة أن بعض الطيور التي تعزل عن باقي السرب في عمر مبكر تستطيع أن تبني أعشاشها بمهارة تضاهي أسلافها البرية من دون تعلم مسبق .وبالتالي نستنتج أن الغريزة هي كل سلوك ذهني أو بدني لا واعي يورث ضمن نوع من الكائنات الحية ولا يكتسب عن طريق التعلم وعادة ما يكون استجابة لمؤثرات طبيعية.1231
من أكثر الأمثلة التي تم دراستها في القرن الماضي هي اللغة، ومن أبرز من كتب حول ذلك هو عالم اللغويات ناعوم شومسكي حيث درس في كتابه “التراكيب النحوية” الطريقة التي يتكلم بها البشر واستنتج وجود أوجه تشابه بين اللغات مما يشهد بوجود أصول نحو إنساني شامل، وهذا يستلزم أن جزءاً من المخ البشري تم تصميمه بواسطة خطة جينية مشتركة بين البشر مما يفسر التلاقي النحوي الواضح بين اللغات. من البراهين الدالة على وجود غريزة لغوية هي الدراسة التي قام بها ديريك بيكرتون وحدث فيها أن مجموعة من عمال أجانب جلبوا إلى هاواي وأسسوا لغة مشتركة للتواصل بين بعضهم البعض، وكانت هذه اللغة عبارة عن كلمات وعبارات تفتقر إلى القواعد النحوية مما يجعلها لغة معقدة ومتعبة في التخاطب، ولكن هذا كله تغير بعد أن تعلم جيل من الأطفال هذه اللغة لأول مره في سنهم الصغير. حيث أضيفت قواعد التصريف وترتيب الكلمات مما جعلها لغة أكثر كفاءة وفعالية إلى حد معقول. وهذا لا يدعم فقط وجود غريزة للغة بل يدعم ظاهرة أخرى في غرائز كثير من الكائنات الحية وهي أن هناك فترة حساسة لتنشيط الغرائز بواسطة المؤثرات فإذا انقضت تلك الفترة أصبح من الصعب تنشيط تلك الغرائز، وهذا يفسر صعوبة تعلّم لغة جديدة بعد سن الطفولة ، وهذا بالضبط ما حدث لجيني وهي فتاة تبلغ من العمر ١٣ عاماً حُجزت طوال حياتها في حجرة واحدة وحرمت من أي تواصل مع البشر، وبعد إطلاق سراحها سرعان ما تعلمت الكثير من المفردات لكنها لم تتعلم قط كيفية التعامل بالنحو  فهي قد تجاوزت الفترة الحساسة التي تنشط فيها غرائز اللغة.
ونصل أخيراً إلى السؤال الأهم وهو كيف يستطيع ذلك الجين الأعمى المكون من تتابعات حمضية DNA أن يؤثر في سلوكنا وطبائعنا من خلال ما يعرف بالغريزة؟! يساعدنا جراهام سكوت في تبسيط الفكرة فيقول ” إذا قلنا أن هناك جين -لسلوك ما- ما نعنيه حقيقة هو أن هناك جزء من الصبغيات الجينية للشخص تساهم في اختلاف التركيبة العضوية لذلك الشخص وبالتالي تؤثر في سلوكه تحت ظروف بيئية محددة”. من الآليات المقترحة لحل هذا اللغز هي أنه خلال عملية نمو وتطور الجنين تقوم الخلايا الأولية pro-genitor cells في الدماغ بتنشيط جينات لها القدرة على تشكيل الممرات العصبية neuronal pathways في الدماغ ، والممر العصبي هو شبكة من الخلايا العصبية neurons تسري بداخلها الإشارات الكهربائية nerve impulses تمر بمناطق مختلفة في الدماغ والجهاز العصبي يتم خلالها توليد، تحوير وتنفيذ النشاطات الذهنية والحركية، فمثلاً لو أردت أن تقبض يدك سوف يبدأ الممر العصبي وتتولّد الإشارات الكهربائية من القشرة المخية pre-frontal cortex وتمر بالنويات القاعدية basal ganglia والمخيخ cerebellum لتحوير الإشارات الكهربائية ثم تنتقل إلى الحبل الشوكي ومن ثم إلى عضلات الساعد للانقباض. وبالرغم من أن الكثير من الممرات العصبية يتم تشكيلها بعد الولادة ونتيجة لتفاعل الكائن الحي مع بيئته وتعلّمه من أقرانه إلا أن هناك مجموعة من الممرات العصبية يتم تشكيلها مبكراً قبل الولادة أو حديثاً بعد الولادة كجزء من عملية نضوج الكائن الحي، وغالباً ما تحتاج تلك الممرات العصبية لمؤثر خارجي حتى تتنشط وتؤدي السلوك المرغوب آلياً دون وعي ، مثل الروائح الجنسية عند تزاوج الفئران أو الإحساس بملمس ناعم وطري كثدي الأم أو الاستماع إلى محادثة الوالدين لتتنشط غرائز اللغة عند الطفل.

   إذا فالغريزة هي البرمجيات التي وضعها الله في جينات الكائنات الحية لترسم بعد ذلك خريطة متكاملة للدوائر والممرات العصبية في جهازها العصبي لتلبي بذلك حاجاتها الأساسية عن طريق التصرف آلياً دون وعي مما يضمن بقاءها وتكاثرها. وبالرغم من أن الإنسان يملك غرائز أكثر من باقي الكائنات الحية إلا أنه يملك ذلك المخ العملاق الواعي القادر على التعلم والاختيار مما يجعله مناطاً للتكليف والاختبار.

 المراجع :

كتب :

The red queen – Matt Ridley

Nature via nurture – Matt Ridley

Genome – Matt Ridley

Essential animal behavior – Graham Scott

ثم صار المخ عقلاً – الدكتور عمرو شريف

مقالات :

Modular genetic control of innate behavior – Xiaohong Xu

شارك المقال

التعليقات (2) أضف تعليقاً

حاتم عسيري منذ 9 سنوات

أشكرك جدا على المقال ..النافع ..والنابع عن فهم عميق للموضوع ..وسيظل هذا السؤال شائك !!

فاطمة منذ 9 سنوات

في الكورنيا فاشون


اترك تعليقاً انقر هنا لإلغاء الرد

القائمة البريدية

اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك جديد مقالاتنا العلمية وكل ماهو حصري على مجموعة نون العلمية

error: Content is protected !!